محكمه الانسان فى السماء

[خارج عن القانون]

من روائع احسان عبد القدوس

من
حائر بين الحلال والحرام

ما بين ايديكم روايه من رويات احسان عبد القدوس
من كتاب حائر بين الحلال والحرام
طبعه مهرجان القراءة للجميع 1995 من روائع الادب العربى(الاعمال الابداعيه)

اسم الروايه الاصلى (الانسان فى السماء)

واحب ان انبه انى قمت ببعض التعديلات البسيطه جدا جدا
وذلك لما رايته بانه كان الحاد والعياذ بالله


مات...

ولم يحس احد بموته.. ذهب دون ان تترك قدماه اثرا فوق طريق الحياة..ولو ان كلبا نفق فى الطريق لتجمع الناس حوله ,وتهامسوا, وربما انقبض قلب بعضهم ,وربما استعدوا مندوب جمعيه الرفق بالحيوان..ولكن من سوء حظ عبد المتجلى -وهذا هو اسمه- انه ينتمى لنوع من مخلوقات كثيره العدد..عددها اكثر من الكلاب ..ومن عدد البغال.. لن يحدث شى اذا نقص هذا العدد واحد..لن يتنهد احد..ولن يهتم احد..وهكذا مات عبد المتجلى فى صمت..كما عاش حياته كلها فى صمت ..لم يشكى ولم يتاوه, ولم يستغيث بالله ..وانما ابتلع الامه وعذابه فى صمت.. الى ان سمع صوت عظامه وهى تتفكك , واحس بصدره يضيق , وانفاسه تخمد..وصمت ايضا .. لم يعرف انه يموت .. الى ان مات.

وكل ما حدث بعد ذلك ان تضايق الجيران , سكان حى زينهم , من الرائحه العفنه التى تبعث من الجحر الضيق الحقير الذى يسكنه ( عبد المتجلى ) فاقتحموه.. ووجدوا الرجل ميتا فحملوا فوق اكتافهم ; لا لانه ميت , بل ليتخلصوا من الرائحه العفنه.. ودفنوه فى حفرة فى مكان من الجبل القريب حفرة لا يميزها لوح من الحجر او من الخشب يحمل اسم ((عبد المتجلى)) ويحتفظ بذكرى عذابه فى الدنيا .. حفرة لم تلبث ان اصبحت قطعه من الطريق يدوسه الناس بالاقدام .

هكذا مات عبد المتجلى ..
فى صمت .. وبلا مناقشه.. وبلا عزاء..
ولكنه ما كاد يصل الى السماء حتى استقبل بضجه لم يسمع مثيلها فى الدنيا .. وتجمع فريق من الملائكه ينثرون فوق راسه اكاليل من نور , وينشدون من حوله نغم اعذب من كل ما تذيعه محطات الاذاعه , ويعدون له عرشا من ذهب موسد بالحرير , فى ابهى قصر من قصور الجنة .. ولكن فريقا اخر من الملائكه لم يشتركوا فى هذه الفرحه , ولم يرحبوا باستقبال عبد المتجلى , انما وقفوا يتهامسون ويتناقشون وينظرون الى عبد المتجلى فر رثاء يكاد يكون ازادراء .. وعنما مر بهم , اولوه ظهورهم واستغرقوا فى مناقشتهم ...
وسال احد الصالحين من اهل الجنة:
-ما هذه الضجه؟
واجابه ملاك:
- الا تدرى .. لقد وصل عبد المتجلى !
وقال الرجل الصالح:
- عبد المتجلى !! من هو عبد المتجلى هذا !! لم نسمع اسمه بين الانبياء , او الصالحين , او الشهداء!!
وقال الملاك:
-انه انسان كنا جميعا فى انتظار وصوله الى السماء , فهو يمثل مشكله يدور حولها خلاف كبير .. هل هو يستحق الجنه , ام النار؟
وقال الرجل الصالح:
-هل هو كافر؟
وقال الملاك:
-لا..
قال الرجل الصالح :
-مؤمن اذا؟!
قال الملاك:
-لا..
قال الرجل الصالح:
-وقائمه ذنوبه؟
قال الملاك :
-ليس له ذنوب!
قال الرجل الصالح فى تعجب:
-اذا له حسنات!
وابتسم الملاك وقال:
-لا ليس له حسنات!
قال الرجل الصالح , وقد استبدت به الحيرة:
-كيف قضى حياته الاولى؟..
قال الملاك:
- فى صمت!!
قال الرجل الصالح:
- وما حكم الصمت؟
قال الملاك :
هذا هو سر الضجه ..ان الملائكه مختلفون بعضهم مع بعض , وقد ارادت مشيئه الله ان تشكل محكمه يقدم امامها عبد المتجلى , وسيدافع عنه ملاك , ويتولى الاتهام ملاك اخر..الا تاتى.. ان المحاكمه علنيه , والحضور مباح لاهل الجنه..

وعقدت المحكمه..

فتحت الجلسه..

وتقدم عبد المتجلى , وهو صامت يرتجف , ولا يدرى من اموره شيئا .. وحاول ان يرفع عينيه الى قضاته فبهره النور الذى يشع من حولهم .. فارخى عينيه سريعا .. ووقف صامتا .. مرتجفا .. لا يدرى مصيره..
وارتقع صوت ملاك الدفاع .. صوت رقيق رائق كنغمات الكمان
- يا حضرات القضاة.. لقد عاش عبد المتجلى متداثرا من العذاب فى معطف الصمت ..
وقاطعه ملاك الاتهام فى صوت جميل ولكنه عريض كصوت السكسفون:
-ما هذه التشبيهات الدنيوية .. اننا لا نريد بلاغه !
وعاد ملاك الدفاع يقول:
- ان هذا الرجل تحمل من العذاب ما ينوء بحمله جبال ورغم ذلك لم يعبر عن شكوا .. و..
وقاطعه صوت كبير القضاة , صوت رهيب :
- تكلم فى الوقائع .. الوقائع من فضلك..!
وابتسم ملاك الدفاع وعاد يقول :
لقد ولد عبد المتجلى فقيرا , وماتت امه بعد ان ارضعته , وتزوج ابوه السكير من امراة انتصر عليها الشيطان فعذبته.. كانت تكويه بالنار .. وكانت تلقى له بالخبز الجاف .. بينما تاكل هى اللحم والكنافه .. وكانت ترسله ليعمل عند الحداد ينفخ فى النار ثم تستولى على اجره الضئيل .. ورغم ذلك لم يشكى ولم يتاوه ولم يعترض..ولم يرفع الينا دعوى او استغاثه ..وجاء ابوه المجرم فى احدى ليالى الشتاء وجذبه من شعره خارج البيت .. فلم يعترض.. انما سار فى الطريق .. جاع ولم يحاول ان ياكل .. وبرد ولم يحاول ان يتدفا.. انما كان يقدم نفسه لاى عمل , فاذا وجد عملا لا يسال عن الأجر .. واذا لم ينقد اجرا لا يطال بشىء .. انه صامت دائما .. صامت .. صامت وحدث مرة ان صدمته سياره فوقع على الارض مشجوج الراس فلم يصرخ , ولم ينظر الى السياره التى صدمته .. واخذه الرجل صاحب السياره , وجعله خادما فى الجراج , وداوى جرح راسه بان وضع عليه حفنه من الطين وبقى عبد المتجلى يخدم فى الجراج , ويودى بجانب عمله كل ما يامره به السيد او احد من حاشيه السيد .. ثم امره السيد بان يتزوج احدى الخادمات فتزوجها .. ورفضت الخادمه ان يقربها او يضاجعها , ورغم ذلك فقد وجد عبد المتجلى نفسه ابا بعد خمسه اشهر .. فلم يعترض ولم يثر .. ولم يرفع راسه الينا فى السماء ليتساءل عن حكمه الله .. ثم طرده السيد بلا سبب ودون ان ينقده اجرا طول مده خدمته .. وهجرته زوجته .. وعاش مع الولد الصغير المنسوب اليه .. يسير فى الحياة ويقوم باى عمل .. دون ان يعترض .. ودون ان يطالب .. بل دون ان يشحذ .. تصوروا يا حضرات القضاة .. انه لم يشحذ ايضا .. وعندما بلغ الولد الصغير الخامسه عشر من عمره .. طرد عبد المتجلى من الجحر الحقير الذى كانا يقيمان فيه .. فلم يعترض عبد المتجلى .. ولم يتصد لارادة الولد الذى رباه .. انما سار فى الحياه بلا هدف ,ولا امل , ولا راى , ولا شكوى, ولا اعتراض , ولا ....

وهنا انتفض ملاك الاتهام وقال بصوته العريض:
يا حضرات القضاة .. انى لا اعترض على كل هذه الوقائع .. انى اعترف بها , وعلى استعاد لان ازيدكم منها .. وهذه الوقائع بالذات هى عناصر اتهامى لهذا الرجل..
لقد وهبه الله صوتا ليشكو به اذا حدث ما يستوجب الشكوى .
لقد وهبه الله عقلا لكى يدبر اموره ويدبر شئون نفسه في سبيل اسعادها ..ووهبه مجتمعا يعيش فيه ويتعاون معه .. ووهبه اراده يتحدى بها الظالم ويدافع عن نفسه ..ولكن هذا الرجل المسمى عبد المتجلى عطل قدرة الله فى خلقه .. لم يستعمل صوته , ولا عقله , ولا مجتمعه , ولا ارادته .. انه بذلك يتحدى قدره الله ونعم الله الذى من الله بها عليها .. ولذلك فانى احكم على هذا الرجل بالجحيم.

ودوى صوت القاضى الرهيب:
-ليس من حقك ان تحكم هنا بشىء .. اننا هنا لسنا محكمه دنيويه .. ولكن فقط قل رايك .. واشرح وجهة نظرك.. والحكم لله من قبل ومن بعد..

وقال ملاك الاتهام وقد خفت صوته:
-رايى ان الامتناع عن استعمال قدرة الله اللتى وهبها للانسان جريمه توازى جريمه الكفر بالله ..

وصمتت الاصوات .. وساد جو رهيب قاعه المحكمه التى اقيمت جدرانها من نور..

وعبد المتجلى واقف .. صامت .. مرتجف .. لا يدرى شيئا .. وان كان قد خيل اليه انه المقصود بكل ما قيل ..

ودوى صوت رئيس المحكمه يقول:
- يا عبد المتجلى..

لم يجب عبد المتجلى .. خيل اليه ان الصوت ينبعث من داخله , لا ممن يناديه!

وعاد الصوت يدوى:
-يا عبد المتجلى .. ارفع راسك!

ورفع عبد المتجلى راسه , وملا النور عينيه ..

وسمع صوت القاضى يقول له :
- قل لنا يا عبد المتجلى .. ماذا تشتهى عندما تكون فى الجنة؟ ماذا تطلب؟ تكلم .. لا تخف..

وقال عبد المتجلى بعد تردد:
- هل استطيع ان اطلب اى شىء؟..

قال القاضى فى صوت مشجع:
- اى شىء .. كل ما تريده تحت امرك!

فقال عبد المتجلى:
-صحيح؟!

ودوت القاعه باصوات الملائكه من الفريق المؤيد:
- صحيح .. صحيح .. تكلم .. اطلب ما شئت ..

وقال عبد المتجلى وقد ارتفعت لاول مره ابتسامته :
- اطلب طبق فول بالزيت كل صباح .. ورغيف عيش ..

ثم استدرك بسرعه:
- رغيفين!!

ووقع على القاعه صمت مخيف .. ثقيل .. ونكس الملائكه المؤيدين رؤوسهم خجلا .. ولووا شفاهم ازدراء لهذا الشىء الذى خلقه الله على الارض .. واشاح ملاك الدفاع براسه كانه ندم على الدفاع عن هذا المخلوق ..
وابتسم ملاك الاتهام ابتسامه الشماته والنصر ..
وساءل عبد المتجلى نفسه:
((ترى هل طلبت كثير؟!))
ومالت روءس القضاة بعضها الى بعض , واخذوا يتهامسون .
وقال كبير القضاة:
- لامفر .. نطلب من الله ان يدخله الجنة!
وسال احد القضاة:
- الحيثيات؟!..
قال كبير القضاة همسا:
- الرحمه!!
************
وصدر الحكم بادخال عبد المتجلى الى الجنه ..
ولم يفرح الملائكه المؤيدين .. ولم يقيموا احتفالا , ولا انشدوا ترتيلا .. دخل الانسان الجنه .. رثاء له!!

اتمنى ان تكون نالت اعجابكم وانتظر الملحوظات