وقفه بين الاهل

[ياسر بن عبدالله]

رفعت ستارة النافذة بيد معروقة مرتجفة .. بيد خطت عروقها النافرة و أوهتها أيام و سنون طويلة .
نظرت إليه بعينين كسيرتين ترتجف فيها الدموع كا رتجاف يدها , إنه يركب السيارة متوجهاً إلى المطار ,ليكمل دراسته الجامعية في بلد بعيد .. بعيد ..
سألت نفسها في حيرة : ترى كم يبلغ بعده ؟ .. و هل الشمس التي تشرق على عليها هي الشمس نفسها التي ستشرق ولدها في غربته ؟ .. أم أنها شمس جديدة غريبة كغرابة أهلها
و أرضها و لغتها .. رفعت الستارة أمثر , تمكنت لو يرفع رأسه و ينظر أليها .. كادت أن تناديه . ناصر .. ولدي .. حبيبي ألي أين ترحل و تتركني !! ناصر
انظر إلي .. ربما تكون هذه آخر نظراتي ألي عينك الجميلتين .. ربما تلفني أكفاني قبل أن تعود إلي .. رفع ناصر رأسه
و كأنه تلقى شحنة كهربائيه من عواطف أمه الملتهبة .. نظر إليها بحب .. رسم على شفتيه ابتسامة مصطنعة و لكن دمعه خانه .. أخفى و جهه بين بيده , تظاهر با ألتجلد , لوح لها مودعاً ثم دخل السيارة مسرعاً , وقد تعمد أن ينهي هذا الموقف المحزن ..
انطلقت السيارة تحمل أغلى عناقيدها و أحلاها , و انطلقت عيناها تعبر الزمان و المكان .. فتراه بين يديها طفلاً صغيراً يملأ البيت ضجة و صخباً فتقول له يكفي يا ناصر .. أرجوك يا صغيري , اهدأ قليلاً .. و أنت يا أميرة .. كفي عن الكاء .. سوف أشكو ناصر لأبيه عندما يعود.
ضحكت بصوت مسموع حين تذكرت أميرة الصغيرة ..
و هي تقول لها ببراءة و عفوية : أعرف يا أمي أنك لن تشتكيه لأبيه .. فهو المدلل و الأثير .. ما أجملك يا أميرة .. أنت أيضاً أجمل عناقيد شعرك المتوجة حين كنت أعقدها لك بشريطة بيضاء حين ذهابك إلي المدرسة فتمزحين و تقولين لي : إنها كجديلة جدتي !! ألا تعرقين طريقة أحدث تمشطين بها شعري يا أمي !! وها أنت اليوم يا أميري حديثة و تقصين شعرهم كما ترغبين .. سمعت من خلفها وقع خطوات زوجها المتثاقلة .. أرخت ستارة النافذه .. استدارت نحوه , قالها : أين أنت يا أم خالد ؟ .. بحثت عنك طويلاً .. لمح في عينيها بقايا دموع و على شفتيها ظل ابتسامة .. عرف سرها إلا أنه قال ممازحاً : صار أمرنا غريباً يا أم خالد , نضحك و نبكي في آن واحد !! "خلاص راحت علينا " .. هيا تعالي نأكل .. أشعر بجوع شديد ..
مشت إلي جانبه .. كان طويل القامة كناصر تماماً .. إلا أن انحاءة ظهره جعلته يبدو منكمشاً على نفسه , قصيراً .. نظرت إليه و قالت : افد طولك يا أبا خالد .. وعدل من مشيتك .. فما زلنا شباباً !!
ضحك أبو خالد و كاد أن يفقد توازنه و هو يضحك .. قال في سره : شبلب !! إيه .. و أي شباب !! سقا الله أيام الشباب .
وصلا إلى غرفتة الطعام , جلسا و حيدين خلف طاولة كبيرة عريضة , تتسع لأكشر من عشرة أشخاص .. جلست إلي جانبه .. صبت له الطعام , بيد مرتجفة فانسكب بعض الحساء على طرف الطاولة .. نظر أليها معاتباً ثم بدأ يأكل بنهم ..
و لم ينتبه إلى حبات الأرز المتناثرة على أطراف ثوبه !! عندما رأته تذكرت ولدها عبدالله حين كان صغيراً و كانوا يجلسون على الأرض ليتناولوا طعامهم , تذكرت كيف كان عبدالله يزرع الأرض حوله رزاً و خبزاً !!
ما أجملها من أيام و ما أبسطها !! كان البيت عامراً يمتلىء حياة و حيوية , نظرت إلى المقاعد الخالية حول الطاولة .. هناك كان يجلس ناصر ليلة أمس .. ترى هل حلقت به الطائرة ؟ .. ليتها تتعطل و لا تغادر أرض الوطن !!
نظرت إلى زاوية أخرى من الطاولة رأت فيها ظل ولدها خالد و بقربه زوجته و ولده الصغير .. تنهدت و قالت لنفسها بحيرة : لست أدري لماذا أصر خالد على أن يبني بيتاً جديداً
و بعيداً ؟ .. لقد كان في بيتنا و قلبنا متسع له و لاولاده .. بيته الجديد غرفه متباعدة باردة .. أما اجتماعنا هنا فيبعث الدفء و الحياة .
نظر إليها أبو خالد من خلف نظارته السميكة و قال : لم تأكلين ؟ .. سيبرد الطعام .. بدأت تؤاكله .. بينما كان الطعام يأكلها !! الطعام بارد .. لو استطاعت ابتلاعه لا نتقلت أليه حرارة قلبها فسخنته !! لفحة نار جديدة هبت في أرجاء جسدها فجأة تذكرت منيرة .. إنها تحب هذا الطعام كثيراً .. ليتها تأتي اليوم فتبعث البرد و السلام في قلبها .. و لكن بيتها بعيد .. و زوجها مشغول دائماً ..
لن تأتي إلا في نهاية الأسبوع .. يوم الخميس .. يا له من يوم بعيد ..
سألت زوجها فجأة : في أي يوم نحن ؟..
أجابها ضاحكاً : ألم أقل لك يا أم خالد راحت علينا .. اليوم هو السبت و غداً الأحد .. و بعد غد يوم ... قتطعته بعصبية :
كفى .. كفى .. أرجوك ..
أحضرت الشغالة الشاي .. إبريق كبير مع كوبين فقط !! صبت الشاي و قدمته لهما .. تذوقته أم خالد .. لم يكن مراً
و لكنها قالت بمرارة :
كم مرة قلت زيدي كمية السكر .. و لا تغلي النعناع مع الشاي
تمتم أبو خالد معترضاً :- مريضه سكري و تطلب المزيد من السكر !! رن جرس الهاتف .. خفق قلبها لا بد أنها أميرة تسأل عن سفر ناصر .. إنها هي بالتاكيد .. أعرفها , قلبها علي .. أسرعت إلي الهاتف تبرق عيناها بوميض خاطف .. فجأة انطفأ ذلك الوميض و قالت ببرود :
نعم .. لقد سافر اليوم .. شكراً يا ولدي على سؤالك !!
إنه صديق ناصر .. جلست على الأريكة قرب الهاتف أدارت القرص تطلب رقم أميرة .. الخط مشغول .. عاد قلبها يخفق من جديد .. قالت .. إنها تتصل بي .. قلبي دليلي .. انتظرت لحظات ثم اتصلت ثانية فردت الخادمة قائلة : ماما نائمة .. سألت مستنكرة : كيف تنام و أخوها قد سافر اليوم ؟!!
عادت إلي مسامعها خطوات زوجها الثقيلة و هو يجر قدميه متجهاً إلى المسجد ليصلي العصر .. صحبتك السلامة يا صديق و حدتي .. ويا أنيس و حشتي !!
بعد خروجه خيم سكون على أرجاء المنزل .. و وجوم طلى جرانه !! هدوءاً يثير أعصابها و يزيد و حشتها .. أصداء الأذان من المسجد القريب قطعت صمت و حشتها فآنست قلبها .. يارب .. ساعدني احفظ أولادي أينما كانوا .. شمرت عن ساعديها لتتوضأ .. بدت عروقها النافرة بوضوح أكثر .. دخلت الحمام .. نظرت إلى بلاطه .. إنه يامع كالمرآة .. قالت : سبحان الله !! هذا البلاط يجعلني أهتز فوقه , كأنهم يصنعونه من الصابون !! توضأت .. سارت بحذر نحو الباب .. فجأة انزلقت .. سقطت على الأرض شعرت بألم شديد .. صرخت .. سمعت صوت الشغالة تصرخ .. ثم غابت عن الوعي !!
لم تدر كم فات من الوقت حين عاد إليها وعيها .. فتحت عينيها الزائغتين .. رأت و جوهاً كثيرة مختلطة الصور .. وجوهاً أليفة حبيبة ردت إلى جسدها الحياة من جديد .. جعلت قلبها يخفق بسرعة كقلب العاشقين .. إنهم أولادي .. أنهم أحفادي .. خالد و زوجته و أولاده .. عبدالله و أسرته .. منيرة و زوجها .. أميرة الاثيرة و أولادها .. و أبو خالد أيضاً .. أرادت أنم تقفز لتحييهم .. لتضمهم بين ذراعيها .. شعرت أنها ثقيلة و لا تستطيع الحراك !!
ما هذا .. رباط غليظ بساقها .. لا بد أنها كسرت !! رفعت رأسها .. شعرت بألم شديد .. مدت يدها لتعانقهم جميعاً .. أسرعوا إليها .. أحاطوا بها .. لثموها من كل جانب ..
قبلات حارة تطبع على يديها الجعدتين و على و جهها الضامر فتعيد إليهما رونق الشباب و ألق الحياة .. لم تكن قادرة على الحراك .. إلا أن لسانها انطلق بقوة ينثر عبارات الحب و الشوق و يطمئن الجميع ..
لا تخافو .. أنا بخير .. لا تقلقوا !! سوف أشفى سريعاً بإذن الله .. مسحت بيدها دموع منيرة و أميرة .. لثمتهم من كل مكان استطاعت أن تصل إليه .. بكت بغزارة .. لم يكن مذاق دموعها مراً هذه المره .. إنها دمع الفرح .. ضحكت بصوت مرتفع أثار اهتمام الجميع .. قالوا لها : ما يضحكك يا أمي ؟..
تحسست ساقها بيدها .. ابسمت برضى و سعادة ثم قالت لهم : ليت ساقي كسرت منذ زمن بعيد !! ليتها تبقى مكسورة أبداً !! كم أنا سعيدة بوجدكم حولي !!

*****