عزاء الجحبم

[belly]

كان يوم خميس بأواخر عام 2014 عندما جاءني اتصال من رئيسي بالشركة يبلغني أن صاحب الشركة قد توفي والده اليوم و بما أن صاحب الشركة من مدينة المحلة فالعزاء سيكون هناك ، ساعتها ترددت قليلاً و لكنني قبلت الذهاب و اتصلت بأبو تفة – صديق لي – حتى نذهب سوياً ، فهو زميلي في المكتب ، و لكن كعادته تملص مني و هرب و ادعي أنه لا يملك وقتاً .. و هذا هو المتوقع منه ، فكلما قصدته في طلب تملص مثل الأفعى التي تم دهان جسدها بمزيج من الزيت و السمن و الزئبق

تقابلنا عند الموقف الجديد بالإسكندرية حيث وجدت الكثير من زملاء العمل و ركبنا ميكروباص و لكنه كان مثل علبة السردين ، فوجدت نفسي محشور في الكرسي خلف السائق و لم أكن أقدر علي التمدد بحرية ناهيكم عن أنني أشعر بألم في ركبتي اليسري عندما أطيل الجلوس و كنت يومها صائم و أبيت أن أفطر حتى مع رخصة السفر - فالمحلة تبعد مسافة كبيرة عن الإسكندرية كما هو معروف . -

دامت رحلة الذهاب لأكثر من ثلاث ساعات و أنا أشعر أن ألم ساقي يتفاقم أكثر و أكثر فحاولت تغيير وضعيتي في الجلوس مراراً و لكن بدون فائدة ، لأن المكان كان ضيق للغاية و تساءلت عن حال من يجلسون خلفي ؟ لا شك أن المكان عندهم أضيق بمراحل عن الكرسي الذي أجلس عليه ، رحمهم الله

وصلنا بعد عناء و تعب و مشقة و نزلت من الميكروباص و أنا أشعر بأن ساقي اليسري تتبع لإرادة شخص غيري ، فكانت لا تطيعني إلا بعد مشقة كبيرة ، ثم جلسنا علي مقهي ، كنوع من الترفيه ، و الظريف أننا كنا حوالي 30 فرد ، بعد وصول أكثر من ميكروباص آخر و كانت طلباتنا بـ 250 جنيهاً ! ، و لا أدري كيف صراحة ؟ فأنا كنت صائم و الغالبية طلبت شاي أحمر فقط و القليل طلب عصير و مياه غازية أو شيشة و طاولة ! ، حتى يكون العزاء بمزاج !

انتظرنا حتى قبيل آذان العصر ثم تحركنا لنذهب إلي المسجد الذي ستخرج منه الجنازة ، فصلينا العصر و الجنازة و بعدها خرجنا وراء الجثة إلي المدفن و بعد الدفن ، أردنا مصافحة صاحب الشركة لأداء واجب العزاء و لكن هذه لم تكن بالمهمة اليسيرة قط ، فلقد كان حوله طابور لا ينتهي و لا يمكن إطلاق اسم طابور عليه حتى ، فالكل كان يصافحه من كل صوب و مكان ، حتي أنني تخيلت نفسي أمام فرن للخبز المدعم و الكل يهجم بدون تفكير ! و بعد فترة ليست بالبسيطة استطعت مصافحته و كانت هذه هي المرة الأولي و الأخيرة التي أري بها صاحب الشركة وجهاً لوجه !

و مارست هوايتي الظريفة في التوهان و فقدان الطريق ، فلقد كان علي متابعة الزملاء حتى نصل للمكان الذي تم ركن الباص به و لكنني غفلت عنهم في زحمة طابور العزاء هذا ووجدت نفسي قد نسيت الطريق ، ففي الحقيقة إن أكبر نقطة ضعف في حياتي هي الطرق و الاتجاهات و كيف تصل إلي المكان كذا ، و يمكن أن أتوه حتى في الشارع الذي بجوار منزلي بكل بساطة !

و ظللت ألف و أدور في حيرة كحيرة من قُطعت ذراعاه و أراد فتح علبة تونة ! ، حتى هداني الله أخيراً إلي المكان بعد أكثر من 15 دقيقة من هذا التوهان الغريب المقيت !

ظننت اننا سوف نتحرك إلي الإسكندرية فوراً ، بعد كل هذا التعب و تلك المشقة و أنا أفكر كيف ستتحمل قدمي و ركبتي رحلة تفوق الثلاث ساعات مرة أخري ؟ لكنني كنت واهم لأن الرحلة استغرقت وقت طويل بحق !

فبعد العزاء تحركنا و ذهبنا لمطعم عندما كان المغرب يؤذن ، حقيقة أنا لم أكن أرغب في الطعام قدر رغبتي في العودة و الخلاص من هذه الرحلة التي لم أتصورها شاقة هكذا ، و لكنها كانت رغبة الجميع ، و في الطريق رأيت سيارة ترش المبيد الحشري بكثافة ، و بعدها بقليل وصلنا للمطعم و طلب الجميع وجبة دجاج ، لا بأس أنا لا أُحب الأكل خارج المنزل – خصوصاً اللحوم و البقوليات – لكنني أُحب الدجاج جداً و أكثر من أي شئ آخر ، و كعادة المطاعم تم وضع المشيهات في البداية – و التي الغرض الحقيقي منها هو كبح جماح معدتك عن الطبق الرئيسي حتى يتم تقديم ما سيتبقي منك لزبون آخر ! - و كان أول طبق هو شعرية ، المفترض أنها شعرية بالشوربة و لكنها كانت شعرية بشوربة الحشرات اللذيذة !

أجل ، فبسبب المبيد الحشري الذي تم رشه بكثافة كثرت الحشرات المحتضرة في الجو و كانت تتساقط في طبق الشعرية ، و كان المنظر مقرف حقيقة ، و قد حاولت أن أُجنب طبقي من سقوط الحشرات الطائرة و لكن دون جدوى

حقيقية ، و لما تأخر طبق الدجاج و كنت جائع مثل من تم حبسه عن الطعام مدة 25 يوماً ، بدأت في أكل خبز مع بعض الطحينة و لكنني وجدت في أقصي طبق الطحينة صرصور صغير ميت و قد أنغرس بأكمله كما لو كانت رمال متحركة و لم يظهر سوي جزء بسيط منه !

تباً ، أي مطعم لعين هذا ، الذي يقدم الحشرات كمشهيات لزبائنه ؟ و أخيراً جاء الدجاج و كان نصيبي نصف صدر ! ، لا بأس .. أكلت بسرعة حتى لا أترك فرصة لسقوط الحشرات بطبق الدجاج و أنهيت الطعام بوقت قياسي ، و بعدها شربنا مياه غازية و كانت بدون حشرات و لله الحمد !

ركبنا الميكروباص بعدها و كان السائق مختلف عن سابقه ، و قد عرفت ذلك عملياً ، فهو كان يقود بطريقة تجعل من معه يشعر بملل رهيب و رغبة أكيده في أن يمزق شعره أو يصرخ كمن بُترت أصابعه أو يُحضر مطفأة حريق و يفرغها كاملة بوجه هذا السائق البغيض الأخرق .

فأول شئ هو أنه كان يقود بسرعة السلحفاة التي تم وضع ثقل قدرة 2500 كيلوجرام فوق ظهرها ! ، أذكر أن أي سيارة كانت تمر بجوارنا بحرية و سهولة غريبة ، لدرجة أن سيارات النقل الثقيل كانت تسبقنا علي الطريق ، و الشئ الوحيد الذي كان ذلك السائق يسبقه هو " التوك توك " فقط..

و السائق نفسه كان منظره غريب ، فلحيته نصف نامية و يبدو رفيع مثل عود القصب و يداه معروفتان بشكل مقزز ووجهه مثل الخريطة المجسمة من فرط العجز ، و تبدو ملامح السذاجة بادية علي وجهه لدرجة أن بعض الزملاء كانوا يسخرون منه و " يشتغلونه " دون أن يبدي رد مناسب ! و كان يرتدي نظارة كبيرة و يُقرب وجهه من زجاج الباص حتى يكاد أن يصدم رأسه به و السبب في ذلك واضح ، فهو كان ضعيف النظر و النظارة لا تُغني عن ذلك شيئاً و كشافات الباص كانت ضعيفة للغاية و الدنيا شديدة الظلمة و هو لا يعرف الطريق !

أجل يا رفاق ، لقد كان يجهل طريق العودة و لا يحفظ أماكن المطبات كعادة السائقين إضافة لكونه لا يراها من الأصل ، أذكر أننا طوال الطريق كنا نخوض في هذه المطبات بغزارة ، لدرجة أنه – تقريباً - لم يصادف مطب إلا و قد " أكله" ذلك السائق الغريب، و كان لديه حدس خاطئ ، فكثيراً ما كان يبطئ السرعة فنظن أن هنالك مطب ، لكن نكتشف أنه لا يوجد شئ و العتب علي النظر .

شعرت أنني في حالة غيظ رهيبة و قرف لا يمكن وصفه قط ، و أنا أري المسافة تتضاءل و لكن ببطء شديد للغاية ، فمثلا أري لافتة مكتوب عليها الإسكندرية 115 كيلو و بعد وقت يقارب الـ30 دقيقة أو أكثر أري لافتة أخري مكتوب عليها الإسكندرية 105 كيلو !! تباً لهذه السلحفاة التي يقودها ذلك السائق الأعمى !

وصل باقي الزملاء في الميكروباصات الأخرى قبلنا و أكلوا مرة أخري ببيوتهم و ناموا و نحن لم نزل في الطريق و السائق لا يكف إبطاء السرعة أمام مطبات وهمية و الخوض في مطبات حقيقية تجعل جسدي يرتج بقوة و تؤلم ظهري و قدمي ألمها يزداد و أنا أكاد لا أشعر بها علي الإطلاق و أحاول أن أجلس علي جانبي و لكن دون جدوي ، فذلك الألم لن يزول حتى أنزل من هذا الباص اللعين الأحمق !

و طوال الطريق كان الزملاء يعطون إرشادات للسائق لجهله التام بالطريق ، فلم يكن يعرف كيف الطريق إلي الإسكندرية ، لدرجة أنه كاد أن يدخل إلي طريق في نهايته مدينة المنصورة !

و أخيراً انتهي العذاب بعد مشوار مضني مرهق عصيب ، بدأت رحلة العودة الغبية هذه من الساعة 7.00 مساءاً ووصلنا إلي موقف الإسكندرية في الساعة 11.30 مساءاً و كدت أن أُقبل الأرض لأنني وصلت أخيراً إلي الإسكندرية بعد هذا التعب الرهيب لدرجة أنني سرت حوالي 10 دقائق بصورة غير طبيعية من وجع ركبتي و ساقي عموماً ، لكنني عدلت عن فكرة تقيبل الأرض لأنها كانت عامرة بالروث !

ركبت مواصلة ثانية لأصل إلي بيتي قبل منتصف الليل ببضعة دقائق فحسب !

و كنت بحالة من التعب لا توصف ، و قد قلت من يومها – و أؤمن بذلك حتى هذه اللحظة – لو توفي أبي – لا قدر الله – و كانت جنازته بالمحلة ، فلن أذهب إلي هنالك علي الإطلاق حتى لا أخوض في رحلة العزاء هذه مرة أخري ، عزاء الجحيم !

** ملحوظة :- تم كتابة هذا الموضوع عام 2015 قبل وفاة والدي .. رحمه الله

*****

[ساحر الأحزان]

البقاء والدوام لله

رحم الله موتانا جميعا

وغفر لهم وادخلهم جناته


وعوده موفقه بيلي

وان شاء الله تكون اخر الغيبات

[fanaa]

ليه دا المحلة مواصلتها حلوة وقمر خالص��

[belly]

اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ساحر الأحزان البقاء والدوام لله رحم الله موتانا جميعا وغفر لهم وادخلهم جناته وعوده موفقه بيلي وان شاء الله تكون اخر الغيبات

اللهم امين
سلمت اخي الغالي امجد
و احسن الله عزاءك
الحمد لله علي كل حال
و مبلرك عودتك انت الاخر
اشعر بالراحة و ان المنتدي بخير
طالما كنت موجودا به
وفقك الله و دمت بحفظ الرحمن

[belly]

اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة fanaa ليه دا المحلة مواصلتها حلوة وقمر خالص��

قمر اوي اوي
كان نفسي تكوني معانا اليوم ده
عشان تقولي حقي برقابتي و يافكيك😀

[fanaa]

اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة belly قمر اوي اوي كان نفسي تكوني معانا اليوم ده عشان تقولي حقي برقابتي و يافكيك😀

لا منا عارفة المشوار عامل أزاي مجرباه 😂

[ويبقى الأثر]

هههه حلوة ابو تفه ده
معلش بقا واجب وكان لابد منه
حلوه طريقتك فى السرد سلمت وسلم نبض قلمك

[شاعر الحب الحزين]

رحم الله والدك وجعل مثواه الجنة
ورحم موتانا وموتى المسلمين اللهم آمين

رغم إنها مواقف صعبة في وقت ما حصلت
لكن لما بتفتكرها بتضحك صح
المهم إنك عملت الواجب رغم إنك عانيت
من أول السفر لحد ما رجعت اسكندرية تاني

أسلوبك جميل وطريقتك حلوة ف التعبير
عن المواقف اللي حصلت معاك
الله يعطيك العافية يارب ويسعد قلبك
شكري وتقديري وامتناني ❤️