إبتسامة ..ودموع ..ودم

المكان إحدى شوارع المحروسة القديمة ..الشارع يعج بالبشر من باعة جائلين ..أطفال تجرى هنا وهناك ..محلات

تتناثر تحت البيوت والعمارات...أصوات ابواق السيارات ...وجوه الناس وقد إرتسم عليها هدوء رغم الضجة ...وهناك

على شفاههم إبتسامة رغم رقة الحال ولكن الرضا كان هو القاسم المشترك بينهم ..وبإحدى البيوت المنتشرة هنا

وهناك عائلتان ...عائلة الحاج محمد ..وهو موظف بإحدى المصالح الحكومية ولديه ولدين وأبنتين ...زوجته لاتعمل

..وابنائه بمراحل التعليم المختلفة ..وعائلة الأستاذ موريس ..صاحب مصنع صغير بالمنطقة ولديه ولد وحيد ..بالتعليم

مع اولاد الحاج محمد .. كانت العائلتان تعيشان بالمنزل الزوجتان تتشاركان الحديث ..كشأن أى جارات ..لم تعرف

قلوبهم يوما أى خلاف او كره ..جمعهم حب أخوى لا يشوبه شائبه .. كان الحاج محمد مجتهد بعمله محب لبيته واولاده

وبالمثل كان موريس ..دائما ماكان يجمعهم الجلوس على مقهى الشارع ..ايام الراحة ..وكانت زوجة موريس دائما

تشارك زوجة حاج محمد إهتمامات كثيرة فكانتا مثال للجيرة الوفية ..وقت المرض كانت تسأل احداهما على الأخرى

وتتابعها بكل إخلاص وحب ..وفى مناسبات الأعياد كانت زوجة موريس دائما سباقة الى تهنئة جارتها وبالمثل كان يحدث ...
فى إحدى الليالى وفى طريق عودة الحاج محمد من عمله إذ بعربة طائشة يقودها مستهتر تصدمه ...فيفقد رجله فى

هذا الحادث ..وإضطر الى الخروج على المعاش مبكراً ..وصرف مكافأة وتعويض بسيط لا يكفى أن يؤمن حياته وحياة

أولاده الا لفترة بسيطة ..تماسك الرجل وحاول مع زوجته تقليص مصاريفهم حتى لا يشعر اولاده بالتقصير وكان يحاول

ان يجد أى طريق آخر يستطيع ان يعمل به


فى هذه الأثناء كانت زوجة موريس تتابع مع جارتها بالطبع كعادتهما . فكانت زوجة حاج محمد تحاول التماسك بقدر

إستطاعتها ولكنها كانت تسر لصديقتها بقلقها وخوفها ...مرت الأيام وانتهى المبلغ الذى كان بحوزتهم ..وبدأ الحال

يضيق بهم ..فإضطرت الأم ان تلجأ الى النزول والبحث عن أى عمل ...ولجأت الى بيع مصاغها البسيط والذى كانت

تحتفظ به للزمن ولأولادها ...لاحظت زوجة موريس شحوب وجه الزوجة ..ومن ثم إختفاء أحدى أساورها التى كانت تعتز

بها ولم تفارقها يوما ..


جلست زوجة موريس مع زوجها وبدأوا فى التفكير فى جارهم الحاج محمد ...وكيف اصبح الحال بهم وهم لديهم أربعة

من الأبناء ...نهض موريس وذهب لجاره الحاج محمد ...وجلس معه يتجاذب أطراف الحديث كعادتهم كل عطلة ..ولكن

بهذا اليوم كان موريس يصمت لفترة ويسرح ببصره بعيدا جاره ...قلق محمد وبدأ يسأله ..مابالك ياموريس ؟ ماذا

يشغلك يارجل؟ التفت اليه موريس..ياخوى والله انا فى ورطة كبيرة وبصراحة مافى غيرك يقدر يساعدنى فيها ..وانا

محرج منك "

تعجب محمد " انا تحت امرك موريس فى ايه؟ ... فقال موريس" المصنع هايروح منى ..وهضيع انا كمان يامحمد ..كان

عندى محاسب ماسك لى الحسابات لكن للأسف جت له فرصة سفر فجأة لأهله بالخارج وتركنى فجأة ..ولا أعرف

الحل ...غير انى فكرت لو تقدر تتكرم عليا ...وتساعدنى فى الورطة اللى انا فيها دى تكون مشكور وجميل أشيله

فوق راسى " ... تهلل وجه محمد وقال له ..بعمرى ياخويا ولا يهمك انا تحت أمرك ...بس أتحملنى وأنا بقدم واحدة

هههه " نهض موريس على وعد من محمد ان يتقابلا فى الصباح ويذهبا الى المصنع سويا ...وبدأ محمد العمل مع

موريس بمصنعه بهمة وضمير كعادته بالطبع ..وفر له موريس مرتب مجزى جدا خاصة بعد ان وجد إخلاصه المعهود

بالعمل ...وبدأ الحال مع محمد يعود الى سابق عهده ومرت الأيام والسنين هنيئة وهم فى رضا ...وكبر الأولاد ..وكبر

ولد موريس الوحيد ..ودخل الجامعه بإحدى المحافظات البعيدة فإضطر موريس وزوجته للإنتقال الى تلك البلدة ليكونا

بجوار ابنهم الوحيد ..وتابع موريس عمله بالمصنع من وقت لآخر وظل محمد بعمله الذى تضاعف لبعد موريس عن

المكان ...وظل يراعى عمله بإتقان وحب


وجاء دور أبناء محمد لدخول الجامعه ايضا فكان نصيب كل منهم بمكان حتى جاء دور الإبن الأصغر والتحق بنفس الجامعه

التى بها ابن موريس ...فما كان من موريس الا ان استقبله لديه وتعهد لمحمد برعايته خصوصا انه بنفس كلية ابنه ..

زاد تعلق العائلتين ببعضهما البعض .. وزاد اهتمام محمد بالعمل لتشعبه وكبر مجاله وتقدمه ..وفى احدى الأجازات

السنوية للدراسة ..سافر موريس هو وعائلته الى الخارج ..وقضى فترة من الأجازة لدى أقاربه ..وعاد وببداية العام

الأخير فى الجامعة لإبنه ..شعر بألم بسيط فى جنبه ..فلم يهتم

ثم بدأ التعب يتزايد ويتزايد ..حتى وصل نهايته ..وانتهى بمرض غريب بكليته ...وانها لابد أن تستأصل وان حياته بخطر

..انهار الأب بالطبع فهو فلذة كبده الوحيد وقرة عينه ..بدأ موريس يجوب المستشفيات والعيادات والسفر الى الخارج

لعله يجد العلاج ويبعد عن الإستئصال ...ولكن فشلت محاولاته ...وأستاصل الإبن إحدى كليتيه ومرت الأيام ..ولكن

للأسف كان المرض قد نال من كليته الأخرى وأصبحت حياته فى خطر شديد ...وفى إمتحانات السنة النهائية كان

الشاب منهار صحيا تماما ...عاد موريس بأبنه وزوجته الى مسكنه وبدأ بترتيب متبرع لإبنه ...بإعلانات ..ومكافآت

..ولكن بدأت مشكلة أخرى ان فصيلة الدم نادرة ولا يصلح اى متبرع ..ولابد ان تتوافر فيه شروط معينة ..فى هذه

الأثناء ..كان ابن محمد وهو الصديق لإبن موريس بنفس الجامعه متابعا .. وعرف كل تفاصيل حالة صديقه ..فذهب لأبوه

وأخبره أنه الوحيد الذى يستطيع التبرع له ...صدم محمد من عرض أبنه ...ولم يدرى ماذا يقول ..كيف ؟؟ كيف يعرض

ابنه ونور حياته للخطر ؟ كيف يوافقه على ان يتبرع ويعيش بكلية واحدة ؟

لو يملك ان يتبرع هو ماتوانى عن ذلك .... رباه ما الحل ؟ اينعم ان موريس كان صاحب فضل بعد الله علي وعلى أولادي

وبيتى ..ولكن هذا ولدى وهذه حياته ... ما الحل ؟؟؟؟ ما الحل ؟؟؟

إستخار محمد ربه وصلى واسلم وجهه ونام ..وفى الصباح توجه الى المستشفى التى بها ابن موريس وعرض أن

يتبرع هو بكليته فى مقابل ان تجد لهم المستشفى البديل المتفق مع فصيلة الدم النادرة ...ولكن عندما وصل هناك

... وجد زوجته ..وابنائه هناك ..الكل كان هناك

ارتعد الأب ..وخفق قلبه ..ماذا حدث؟؟ طمأنته زوجته وأخبرته أن حالة الشاب كانت قد تدهورت فجأة وأصبح على

وشك الموت وان الوقت لم يعد يحتمل الإنتظار ...وان ابنها قد صارحها بأن فصيلته هى الوحيدة المطابقة والمناسبة

بكل المقاييس ..وانه لن يتوانى ولن يتنازل عن إنقاذ روح صديقه ...بل أخوه ...فهو لم ينسى انهم تربوا وعاشوا

عمريهم متلازمين تقريبا ..وكذلك هى ...فهى لم تنسى كيف كانت تراعيه مع اولادها وكأنه خامسهم ...وكيف كانت

أمه تلجأ لها وتشاركها أمره فيما بينهم ...وكيف حملت هذا الشاب حين كان طفلا وانها لا تعتبره غريبا عن إخوته ...

أطرق الأب أمام كلام زوجته وكيف لا وهى أم .. وتعرف كيف يكون إحساس أمه الآن ... رفع رأسه للسماء وقال انها

إرادتك يا الهى ...أن تتطابق فصيلتا الشابين وان يكون هذا الحب المتبادل بينهم حتى وان الأم ...توافق على مثل هذا

...حينها دخل موريس ونظر لعين محمد والدموع تتساقط وارتمى يحتضنه ...ويشكره ويطلب منه ان يدعو لإبنيهما

...ومرت الساعات ثقيلة على الجميع ...الكل يدعو ويبتهل لله عز وجل ...لحظات ما أقساها عليهم جميعا ... الوجوه

يعلوها الرجاء والتضرع ..دموع تملأ العيون ..ورعشة بالايدى وهى ترتفع وتمتد للسماء ...يااااارب


الكل كان ينطق ....يااااااارب ياااارب

خرج الطبيب ...وأخبرهم بتمام العملية وانه متفائل للغاية فقد كانت العملية من أغرب ما يكون حيث تمت بسلاسة

فائقة وسرعة غير معهودة وان أستجابة الكلية للعمل كانت بمنتهى السرعة حتى ان الطاقم كله المشارك بالعملية

أصابتهم الدهشة والإستغراب ...وكأن الكلية كانت فرحة ومتلهفة لإنقاذ هذه الروح .... أستعاد الجميع هدوئهم

وبدأ الشابين فى إستعادة صحتهما بالتدريج ...وعادا الى الحياة

وبقلب كل منهم حباً فائقاً أكثر من ذى قبل ...فقد صاروا إخوة بالدم

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اخوتى ربما لايصدق الكثيرين أحداث هذه القصة

ولكن أصدقكم القول أن معظم أحداثها موجودة بل بتفاصيل أكثر حميمية وجمال وحب ........أشكركم من كل قلبى

بقلم \ جبل عالى

17\8\2012