{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ }
الدافع للموضوع ..
ما نراه من كثرة الفواحش والمنكرات ..
ما نلمسه من ضعف الوازع عن المحرمات ..
وما تأتي به الأخبار عن ضعف التربية ..
وقلة المراقبة في الخلوات ..
هذا يتساهل في النظر ..
وذاك يمارس عادات ..
وآخر يأكل الربا ..
وآخر يتمايل مع الغنا ..
أحبتي ..
كثير من الناس وجودهم كالعدم ..
لم يتأملوا دلائل الوحدانية ..
ولم يقفوا عند أوامر الله ونواهيه ..
هم { كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } ..
إن وافق الشرع مرادهم قبلوه ..
وإن لم يوافق تركوه ..
إن حصلوا على الدرهم والدينار رضوا وأخذوه ..
ولم يبالوا أمن حلال أم حرام كسبوه ..
إن سهلت الصلاة فعلوها ..
وإن لم تسهل تركوها ..
أحبتي ..
من تفكَّر في العواقب ؛ أخذ الحذر ..
ومن أيقن بطول الطريق ؛ تأهب للسفر ..
تمضي السنون وتنقضي الأيام
والناس تسعى للحياة بغفلة
والمال أصبح جمعه كتهجدٍ
قد زيَّن الشيطان كل رذيلةٍ
يا نفس يكفي ! فالذنوب كثيرة
هل تعلمي اليوم المحدد وقته؟!
ماذا تقول إذا حُملت جنازة
هذا السؤال فهل علمت جوابه
ماذا نصيرك إنَّ روحك غرغرت
اليوم تفعل ما تشاء وتشتهي
والناس تلهو والأنام نيام
لم يذكروا القرآن والإسلام
وتمتع الشهوات صار قيام
والناس تفعل ما تريد حرام
إنَّ الغرور يسبب الإجرام
الله يعلم وحده العلام
ودُفنت في القبر الشديد ظلام
ماذا تجيب إذا نطقت كلام
جاء المُفَّرط كي يقول ختام
وغداً تموت وتُرفع الأقلام
يُروى أنَّ عيسى ابن مريم عليه السلام رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينة فقال لها : كم تزوَّجت ؟!..
فقالت : لا أحصيهم ..كثير ..
فقال : أكلّهم مات عنك ؛ أو كلهم طلقك ؟!..
قالت : بل كلهم قتلت ..
بل كلهم قتلت ..
فقال عيسى عليه السلام :
بؤساً لأزواجك الباقين ؛ كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضيين ..
بؤساً لأزواجك الباقين ؛ كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضيين ..
اعلم رعاك الله ..
واسمعي بارك الله فيكِ ..
لا يُقطع الطريق إلا ..
بالصبر والتسلية ..
حُكي عن بشر الحافي أنه سار ومعه رجل ..
سارا في طريق طويل ..
فعطش صاحبه فقال له : نشرب من هذه البئر ..
فقال بشر : اصبر إلى البئر الأخرى ..
فلما وصلا إليها قال له : اصبر إلى البئر الأخرى ..
فما زال يعلله ويصبره ..
ثم قال : هكذا تنقطع الدنيا ..بالصبر والتصبير ..
فدرّب النفس على هذا الأصل ..
وتلطف بها ..
وعدها الجميل ..
لتصبر على ما قد حُمَّلت ..
كان بعض السلف يقول لنفسه :
والله ما أريد بمنعك هذا الذي تحبين إلا الإشفاق عليك ..
وقال أبو يزيد :
ما زلت أسوق نفسي إلى الله تعالى وهي تبكي ؛ حتى سقتها وهي تضحك _ يعني أكرهتها على العمل حتى استقامت برضاها _ ..
فمن هجر اللذات حصل على المنى
ففي قمع أهواء النفس اعتزازها
ومن أكبَّ على اللذات عضَّ على اليد
وفي نيلها ما تشتهي ذلّ سرمد
آية ومعنى ..
قال سبحانه : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ..
قال السعدي رحمه الله : وأعظم مساعد للعبد على القيام بما أُمر به الاعتماد على ربه ، والاستعانة بمولاه على توفيقه للقيام بالمأمور ، فذلك أمر الله تعالى بالتوكل عليه فقال : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } ..
والتوكل..
هو اعتماد القلب على الله تعالى في جلب المدافع ، ودفع المضار ، مع ثقته بالله ، وحسن ظنه بحصول مطلوبه فإنه ..
عزيز رحيم ..
بعزته يقدر على إيصال الخير ، ودفع الشر عن عبده وأمته ...
وكل ذلك برحمته ..
ثم نبهه عند فعل الأوامر ، وترك النواهي باستحضار قرب الله ، والنزول في منزل الإحسان فقال : { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } ..
أي يراك في هذه العبادة العظيمة التي هي ..
الصلاة ..
يراك ..
وقت قيامك وتقلبك راكعاً ساجداً ..
خصها بالذكر _ يعني الصلاة _ لفضلها ولشرفها ..
ولا بدَّ من استحضار القلب حين فعلها ؛ لأنه من استحضر فيها قرب ربه خشع، وذلَّ، وأكملها ..
وبتكميلها يكمل سائر عمله ..
ويستعين بها على جميع أموره ..
ثم قال : { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ..
أي :
السميع :لسائر الأصوات على اختلاف تشتتها وتنوعها ..
والعليم : الذي أحاط بالظواهر والبواطن ، والغيب والشهادة ..
فاستحضار العبد رؤية الله له في جميع أحواله وسمعه لكل ما ينطق به ، وعلمه بما ينطوي قلبه من الهمّ والعزم والنيات يعينه على بلوغ منزلة الإحسان ..
فما هو الإحسان ؟!..
الإحسان ..
جاء في الحديث الصحيح عند مسلم في حديث وصف الإسلام والإيمان لما سُأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال :
( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ..
نعم يراك ..
نعم يراك ..
ويعلم سرك ونجواك ..
في الصحراء يراك ..
في الجو أو في السماء يراك ..
إن كنت وحيداً يراك ..
إن كنت في جمعٍ يراك ..
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }..
معنى الإحسان ..
استحضار عظمة الله ومراقبته في كل حال ..
فما هي ..
المراقبة ؟!..
قال ابن القيم رحمه الله في " مدارج السالكين " :
من منازل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } منزلة المراقبة ..
وهي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه..
فاستدامته لهذا العلم ، واليقين بذلك هي المراقبة ..
وهي ثمرة علمه بأنَّ الله سبحانه ..
رقيب عليه ..
ناظر إليه ..
سامع لقوله ..
مطلع على عمله ..
ومن راقب الله في خواطره ؛ عصمه الله في حركات جوارحه ..
قال أحدهم : والله إني لأستحي أن ينظر الله في قلبي وفيه أحد سواه ..
قال ذو النون : علامة المراقبة ..
إيثار ما أنزل الله ..
وتعظيم ما عظَّم الله ..
وتصغير ما صغَّر الله ..
وقال إبراهيم الخوَّاص : المراقبة ..
خلوص السرّ والعلن لله جلَّ في علاه ..
من علم ..
أنَّ الله يراه حيث كان ..
وأنَّ الله مطلع على باطنه وظاهره وسره وعلانتيته ..
واستحضر ذلك في خلوته ..
أوجب له ذلك العلم واليقين ..
ترك المعاصي والذنوب ..
كان بعض السلف يقول لأصحابه : زهّدنا الله وإياكم في الحرام زهد من قدر عليه في الخلوة فعلم أنَّ الله يراه فتركه من خشيته جلَّ في علاه ؛ أو كما قال ..
وقال الشافعي : أعزّ الأشياء ثلاثة ..
الجود من قلة ..
والورع في خلوة ..
وكلمة الحق عند من يُرجى أو يُخاف ..
وقالوا : أعظم العبادات مراقبة الله في سائر الأوقات ..
قال ابن القيم :
والمراقبة ..
هي التعبد بأسمائه :
الرقيب ..
الحفيظ ..
العليم ..
السميع ..
البصير ..
فمن عقل هذه الأسماء وتعبَّد بمقتضاها حصلت له المراقبة ..
فهيا معاً أحبتي ننظر في معاني هذه الأسماء وآثارها ..
من آثار هذه المعاني والصفات ..
اعلم بارك لله فيك ..
واعلمي رعاكِ الله..
إنَّ أسماء الله الحسنى هي التي ..
أثبتها الله تعالى لنفسه ..
وأثبتها له عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وآمن بها جميع المؤمنين ..
قال الله تعالى : { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ..
وقال : { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } ..
وقال : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى } ..
وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إنَّ لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر ) ..
ومعنى أحصاها :
أي حفظها ، وعدها ، واستوفاها ، وعمل بمقتضاها ..
فكما أنَّ القرآن لا ينفع حفظ ألفاظه دون العمل به ..
كذلك أسماء الله وصفاته ..
لا بدَّ أن نعلم أنَّ أسماء الله ليست منحصرة في التسعة والتسعين المذكورة في..
حديث أبي هريرة ..
ولا فيما استخرجه العلماء من القرآن ..
ولا فيما علمته الرسل والملائكة وجميع المخلوقين ..
لحديث ابن مسعود عند أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( ما أصاب أحداً قط همّ ولا حَزن فقال : اللهم إنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ، ماضٍ فيَّ حكمك ، عدلٌ فيَّ قضاؤك ؛ أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك ، أنزلته في كتابك أو استأثرت عليه في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي ؛ من قالها أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحاً )..
فقيل يا رسول الله : أفلا نتعلمها ؟!..
فقال : ( بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها ) ..
فتعلموها رعاكم الله ..
تعلموها وعلموها رعاكم ..
واعلم ، واعلمي ..
أنَّ من أسماء الله عز وجل ما لا يُطلق عليه إلا مقترناً بمقابله ..
فإذا أُطلق وحده أوهم نقصاً _تعالى الله عن ذلك _ ..
فمنها ..
المعطي المانع ..
والضار النافع ..
والقابض الباسط ..
والمعز المذل ..
والخافض الرافع ..
فلا تُطلق على انفرادها ..
بل لا بدَّ من ازدواجها بمقابلها ..
إذ لم تُذكر في القرآن والسنة إلا كذلك ..
ومن ذلك ..
المنتقم ؛لم يأتِ في القرآن إلا مضافاً إلى ذي ، كقوله : { عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } ..
أو مقيداً بالمجرمين كقوله : { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } ..
ومما يجب علمه أيضاً ..
أنه ورد في القرآن أفعال أطلقها الله عز وجلّ على نفسه على سبيل الجزاء والعدل والمقابلة ..
وهي فيما سيقت فيه مدح وكمال في ذات الله عز وجلّ ..
لكن لا يجوز أن يُشتق له تعالى اسم منها ولا تُطلق عليه في غير ما سيقت فيه من الآيات كقوله : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } ..
وقوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } ..
وقوله : { نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ } ..
وقوله : { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ، اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } ..
فلا يُطلق على الله تعالى مخادع ، ولا ماكر ، ولا ناسٍ ، ولا مستهزئ ، ونحو ذلك _ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً _ ..
ولا يُقال : الله يستهزئ ، ويخادع ، ويمكر ، وينسى على سبيل الإطلاق _ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً _ ..
ولكن هذا فعله بالمخادعين ، ومكره بالماكرين ، واستهزاؤه بالمستهزئين ، ونسيانه للذين نسوه ..وهي في هذا السياق مدح وكمال ..
قال شيخ الإسلام رحمه الله : وفي كتاب الله من ذكر أسماءه وصفاته أكثر من ذكر آيات الجنة والنار ..
وإنَّ الآيات المتضمنة لأسمائه وصفاته أعظم قدراً من آيات المعاد ..
من أسمائه جلَّ في علاه ..