بداية التعارف :
لاحت لوائحُ النبوة قبل ميلاده عليه السلام، واتَّسعت آياتها، وانتشرت الأخبار بقرب ظهور نبيّ من العرب حلَّ ميقاته، فكان بذلك أمر النبوة معروفاً لدى قريش .
قال ابن إسحاق :« كانت الأحبار من يهود، والرهبان من النصارى، والكهَّان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه لما تقارب زمانه . فأما الأحبار فَلِمَا وجدوا في كتبهم من صفته عليه السلام وصفة زمانِه . وأما الكهان فَلِمَا جاءتهم به الشياطين فيما يَسْتَرِقونَ من السمع مما كانت تتذاكره الملائكة في السماء قبل وجوده صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ كانت الشياطين لا تحجب من ذلك كما حجبت عند ولادته عليه السلام ومبعثه » .
وورد أن راهباً يدعى « عيص » كان يسكن بمر الظهران فإذا دخل مكة قال :« يوشك أن يولد فيكم مولود تدين له العرب ويملك العجم هذا زمانه » .
وكان بمكة يهودي اسمه « يوسف » على ما ذكره الواقدي . قالت عائشة :« فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك اليهودي في مجلس من مجالس قريش :« ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة وهو منكم معاشر قريش » .
وبالجملة كَثُر تحدُّث الأحبار والرهبان والكهان في اليمن والشام والمدينة ومكة عن قرب مولده ومبعثه صلى الله عليه وآله وسلم . ولابد أن تكون قد انتشرت بين قريش أحاديث أمه فيما شاهدت وسمعت حين الحمل وحين الولادة .
وكذلك انتشرت بينهم الآيات التي ظهرت لمولده عليه السلام، وأحاديث حليمة، وحديث الراهب بحيرا لعمه أبي طالب حين تفرَّس بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال :« سيكون لابن أخيك هذا شأن » ، وغير ذلك مما هو في السير مذكور ومعروف(5) ؛ وقد نفصل في المسألة في القريب .
كما توجد رواية نذكرها(6) إذ فى ليلة غارت نجومها وازداد ظلامها جلست خديجة فى بيتها بعد أن طافت مراراً بالكعبة وبعدها ذهبت إلى فراشها وقد ارتسمت على شفتيها علامات الرضا والابتسام ولم يدر فى ذهنها أى خاطر فى ذلك الوقت وما أن اسلمت جنبها للرقاد حتى استسلمت للنوم وراحت فى سبات .ورأت فيما يرى النائم شمساً(7) عظيمة تهبط من سماء مكة لتستقر فى دارها وتملآ جوانب الدار نوراً وبهاءاً ويفيض ذلك النور من دارها ليغمر كل ما حولها بضياء يبهر النفوس قبل ان يبهر الأبصار والعيون بشدة ضيائه فهبت خديجة من نومها وراحت تدير عينيها فيما حولها بدهشة فإذا بالليل ما يزال يسربل الدنيا بالسواد إلا أن النور الذى بهرها فى المنام لا يزال مشرقاً فى وجدانها ساطعاً فى أعماقها وعندما غادر الليلُ الدنيا غادرت خديجة فراشها ومع إشراقة الشمس وصفاء الكون فى الصباح الباكر كانت الطاهرة فى طريقها إلى دار بن عمها ورقة بن نوفل (8) لعلها تجد عنده تفسيراً لحلمها البهى فى ليلتها الماضية .
دخلت خديجة على ورقة فوجدته قد عكف على قراءة صحيفة من الصحف السماوية التى شغف بها فراح يقرأ سطورها كل صبح ومساء، وما أن مس صوت خديجة أذنيه حتى رحب بها وقال متعجباً :" خديجة !؟ الطاهرة !؟ "، قالت :" هى، هى ! " .قال ورقة فى دهشة :" ما جاء بك الساعة ؟ " . فجلست خديجة وراحت تقص عليه ما رأت فى منامها حرفاً حرفاً ومشهداً مشهداً وكان ورقة يصغى إلى خديجة فى اهتمام جعله ينسى الصحيفة فى يده وكان شيئاً ما قد نبه إحساسه وجعله يتابع سماع الحلم إلى النهاية . وما إن انتهت خديجة من كلامها حتى تهلل وجه ورقة بن نوفل بالبشر وارتسمت على شفتية أبتسامة الرضا ثم قال فى هدوء ووقار :" ابشرى يا ابنة العم .. لو صدق الله رؤياك (9) ليدخلنَّ نور النبوة دارك وليفيضنَّ منها نور خاتم النبيين .. " (10) .
الله اكبر الله اكبر ماذا تسمع خديجة !؟ ما الذى يقوله ابن عمها !؟ وجمت خديجة لحظات .. سرت فى بدنها قشعريرة، جاشت فى صدرها عواطف زاخرة بالأمل والرحمة والرجاء . ظلت خديجة رضى الله عنها تعيش على جناح الأمل وعبير الحلم الذى رأته تتمنى أن تتحقق رؤياها وتكون مصدر خير للبشرية ومصدر نور للدنيا فقد كان قلبها منبعاً للخيرات .
*
|