اسباب سقوط الخلافة العثمانية اسباب سقوط الدولة العثمانية
إن اسباب سقوط الدولة العثمانية كثيرة جامعها هو الابتعاد عن تحكيم شرع الله تعالى الذي جلب للأفراد والأمة تعاسة وضنكاً في الدنيا، وإن آثار الابتعاد عن شرع الله لتبدوا على الحياة في وجهتها الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وإن الفتن تظل تتوالى وتترى على الناس حتى تمس جميع شؤون حياتهم.
قال تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ، أو يصيبهم عذاب أليم } (سورة النور: الآية 63).
لقد كان في ابتعاد أواخر سلاطين الدولة العثمانية عن شرع الله تعالى آثاره على الأمة الاسلامية؛ فتجد الانسان المنغمس في حياة المادة والجاهلية مصاب بالقلق والحيرة والخوف والجبن يحسب كل صيحة عليه، يخشى من النصارى ولا يستطيع أن يقف أمامهم وقفة عز وشموخ واستعلاء، وإذا تشجع في معركة من المعارك ضعف قلبه أمام الأعداء من أثر المعاصي في قلبه، وأصبح في ضنك من العيش: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً} (سورة طه: آية 124).
وقد أصيبت الشعوب الاسلامية في مراحل الدولة العثمانية الأخيرة بالتبلد وفقد الاحساس بالذات، وضعف ضميرها الروحي، فلا أمر بمعروف تأمر به ولا نهي عن منكر تنهى عنه، وأصابهم ماأصاب بنو اسرائيل عندما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: { لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لايتنهاون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون}.(سورة المائدة، آية 78-79).
فإن أي أمة لاتعظم شرع الله أمراً ونهياً تسقط كما سقط بنو اسرائيل قال رسول الله : (كلا والله لتأمرنّ بالمعروف ولتَنهُونَّ عن المنكر ولتأخُذُنّ على يد الظالم ولتأطرُنّه على الحق أطراً، ولتقصُرُنهُ على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضاً، ثم ليلعَنَّكم كما لعنهم)( ).
لقد تحققت في الدولة العثمانية سنة الله في تغيير النفوس من الطاعة والانقياد الى المخالفة والتمرد على أحكام الله. {ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (سورة الأنفال:آية 53).
كما أن الشعوب التي ترضخ تحت الحكام الذين تباعدوا عن شرع الله تذل وتهان حتى تقوم أمام من خالف أمر الله وتطلب العون من اخوانهم في العقيدة.
إن انحراف سلاطين الدولة العثمانية المتأخرين عن شرع الله وتفريط الشعوب الاسلامية الخاضعة لهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أثر في تلك الشعوب، وكثرة الاعتداءات الداخلية بين الناس وتعرضت النفوس للهلاك، والأموال للنهب، والأعراض للاغتصاب بسبب تعطل أحكام الله فيما بينهم، ونشبت حروب وفتن ، وبلايا تولدت على أثرها عداوة وبغضاء لم تزل عنهم حتى بعد زوالهم، وأصبحت شوكة الأعداء من الروس والانكليز والبلغار والصرب وغيرهم تقوى وتحصلوا على مكاسب كبيرة، وغاب نصر الله عن السلاطين والأمة العثمانية، وحرموا التمكين ، وأصبحوا في خوف وفزع من أعدائهم، وتوالت المصائب ، وضاعت الديار، وتسلط الكفار.
إن من سنن الله تعالى المستخرجة من حقائق الدين والتاريخ أنه إذا عُصي الله تعالى ممن يعرفونه سلط الله عليهم من لايعرفونه؛ ولذلك سلط الله النصارى على المسلمين في الدولة العثمانية.
إن الذنوب التي يهلك الله بها الدولة ، ويعذب بها الأمم قسمان:
1- معاندة الرسل والكفر بما جاؤوا به.
2- كفر النعم بالبطر والأشر، وغمط الحق واحتقار الناس وظلم الضعفاء ومحباة الأقوياء والإسراف في الفسق والفجور، والغرور بالغني والثروة فهذا كله من الكفر بنعمة الله ، واستعمالها في غير مايرضيه من نفع الناس والعدل العام، والنوع الثاني من الذنوب هو الذي مارسه أواخر سلاطين الدولة العثمانية وأمراؤهم( ).
إن الدولة العثمانية في بداية أمرها كانت تسير على شرع الله في كل صغيرة وكبيرة، ملتزمة بمنهج أهل السنة في مسيرتها الدعوية والجهادية آخذة بشروط التمكين وأسبابه كما جاءت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أما في أواخر عهدها فقد انحرفت عن شروط التمكين ، وابتعدت عن أسبابه المادية والمعنوية قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لايشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} (سورة النور: آية 55،56).
فكانت الدولة الاسلامية العثمانية في بداية أمرها مستوعبة لتلك الشروط أما في أواخر عهدها فقد أصاب تلك الشروط انحرافاً عن مفاهيمها الأصلية فمثلاً:
أولاً: من لوازم الإيمان الصحيح الولاء والبراء:
فكانت الدولة في عصورها المتقدمة عاملة بقول الله تعالى : {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقة ويحذكرم الله نفسه والى الله المصير} (سورة آل عمران: آية 28).
وقول الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لايهدي القوم الظالمين } (سورة المائدة: آية 51).
ويقول رسول الله : (أوثق عرى الايمان المولاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله)( ).
أما في عصورها المتأخرة وخصوصاً في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين فقد أصيب مفهوم الولاء والبراء بالانحراف ، نتيجة للجهل الذريع الذي خيم على أغلب أقاليم الدولة العثمانية والبلدان الاسلامية، ولغياب العلماء الربانيين الذين ينيرون للأمة دروبها، ويأخذون بزمامها الى الطريق المستقيم وكان الحكام والسلاطين يصانعون الأعداء من الكافرين ويتولنهم من دون المؤمين؛ حيث كان هؤلاء الكافرون على جانب عظيم من القوة المادية، والمسلمون في المقابل على العكس تماماً من الضعف؛ فقد ساعد الواقع الأليم الذي كان يعيشه المسلمون على زعزعة هذه العقيدة( ).
فالواقع المليء بكافة صور الانحطاط من فقر وضعف وجهل ومرض وخرافة في مقابل الواقع الأوروبي مثلاً كان عاملاً من عوامل إضعاف عقيدة الولاء والبراء، ومع ذلك لايجوز لنا أبداً أن نبرر لهؤلاء المنبهرين انبهارهم بواقع الكافرين؛ إذ لو كان إيمانهم صادقاً ، وعقيدتهم راسخة لم تجرفهم أهواء الكافرين ولم تتقاذفهم أمواج المادة والقوة، كما كان حال الجيل الأول رضي الله عنهم الذي استعلى بدينه وعقيدته على قوة الكافرين وجبروتهم حتى في وقت الهزيمة ، ولحظة الفشل كما قال الله تبارك وتعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}(سورة آل عمران:آية 139).
ومع هذا فإن هذه العقيدة على مستوى شعوب الامة كانت متوهجة في النفوس ، مستقرة في العقول ؛ فقد كان المسلم في الشمال الأفريقي يحب أخاه المسلم في الشام ويبغض جاره النصراني وهكذا في كل الأقطار والبلدان وكان المسلم يحس بإخوانه في كل مكان بما يقع لإخوانه في الدين من اعتداءات ونكبات، ويشارك بعضهم مع إخوانهم لجهاد المعتدين، والنفير في سبيل الله. فكانوا الى حد كبير كما وصفهم الرسول كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى( ).
وقد بينا مناصرة مسلمي الحجاز وليبيا لأخوانهم في مصر عندما احتلها الفرنسيون في عام 1213هـ/1798م وكيف تفاعل المسلمون مع دعوة السلطان عبدالحميد الثاني الى فكرة الجامعة الاسلامية ودعوته لاتحاد المسلمين في العالم في مقابل التسلط الأوروبي والروسي وغيرهما، وقد أثمرت هذه الدعوة الى حد كبير ، وتجاوب معها المسلمون في كل مكان على اختلاف لغاتهم وألوانهم وبلادهم؛ وليس أدل على ذلك من تبرع المسلمين في أقطار العالم لإنشاء خط سكة حديد بين بغداد والحجاز بثلث نفقات الخط.
إن الشعور بالتربط الديني بين المسلمين كان قوياً على الرغم من كثرة الانحرافات التي توحي بالفرقة والاختلاف كالمذاهب الكلامية والفقهية، والطرق الصوفية، وكانت عقيدة الولاء والبراء سليمة الى حد كبير في نفوس العامة؛ لذلك كبر على أعداء الاسلام من اليهود والنصارى أن يروا في تلك العقيدة جداراً صلباً وحاجزاً قوياً يقف أمام مخططاتهم ومحاولاتهم في القضاء على المسلمين ودينهم. ولذا أخذوا يعملون على تحطيم ذلك الجدار وتذويب ذلك الحاجز عن طريق صنائعهم وعملائهم في البلاد الاسلامية وفي الدولة العثمانية ممن بأيديهم مقاليد الأمور من السلاطين والباشوات. كما حدث مع السطان العثماني محمود الثاني المتوفى عام 1839م الذي تزعم حركة الاصلاح المقلدة للمنهج الأوروبي، حيث عمل علىمسخ عقيدة الولاء والبراء وحاول طمسها في النفوس، ويتجلى هذا الاتجاه الخطير في قول السلطان نفسه (...إنني لا أريد -ابتداء من الآن - أن يمييز المسلمون إلا في المسجد، والمسيحيون إلا في الكنيسة واليهود في المعبد، إني أريد مادام يتوجه الجميع نحوي بالتحية أن يتمتع الجميع بالمساواة في الحقوق وبحماية الأبوية ومن هنا نعمت المسيحية وغيرها في الدولة في ذلك العصر بحرية واسعة النطاق( ).
وفي هذا العصر انتشرت المدارس اليوناينة والأرمنية والكاثوليكية انتشاراً واسعاً بفضل رعاية السلطان وتشجيعه( ).
وقد ثار رجال إحدى الحاميات العثمانية ضد احتمال إلزامهم أن يضعوا على صدورهم الحزامين المتقاطعين على شكل صليب على النسق النمساوي، وطرد الثوار الباشا المرسل من قبل السلطان( ).
وقد سمح السلطان لرعاياه المسيحيين بارتداء الطربوش بدلاً من القلنسوة القديمة، وبذلك خلصهم من الرمز المميز لهم، وكان لذلك رنة فرح شديدة عندهم، وقد حاول فرض الطربوش الأحمر على العلماء بدلاً من العمامة، فلما أبوا عليه ذلك تراجع مغطياً موقفه بإعلان الجهاد ضد الروس( ).
والأدهى من ذلك ما(حدث من استعانة الدولة العثمانية بضباط دانوا بالولاء لروسيا من قبل ، وظلت الدولة غافلة عن هذه الحقيقة، وبالتالي كان لروسيا عيون في جيش السلطان الجديد تزودها بأدق المعلومات والخطط)( ). وكم من هزيمة ساحقة تلقتها الدولة العثمانية من روسيا، وكان من أسبابها تسرب المعلومات الهامة عن طريق هؤلاء.
هذا مثال بارز على ضعف عقيدة الولاء والبراء لدى بعض سلاطين العثمانيين وعدم الاهتمام بها.
أما الباشا محمد علي والي مصر، فقد فتن بالغرب ، وتابع سياستهم، وسار على خطاهم ، وما فتئ خلال حكمه الطويل الذي بلغ خمسة وأربعين عاماً تقريباً يتولي الكفار ويصانعهم، ويعلي من شأنهم ويقوم باتباعهم والاقتباس من نظمهم وقوانينهم ، والسير في ركابهم، مع شدة بطشه وتنكيله بالمسلمين، واستهانته بهم؛ فقد تخطى عقيدة الولاء والبراء وضربها في الصميم، ليرضي أسياده الصليبيين وليخضع أمته وشعبه المسلم للمخططات اليهودية فقد اعتاد محمد علي باشا أن يكون أغلب المحيطين به من النصارى واليهود، الذين تغلغلوا في حكومته وبلاطه، خصوصاً نصارى الأرمن من أعداء الملة الذين هم خاصته وجلساؤه وأهل مشروته، وشركاؤه في اختلاس أموال الدولة ونهب خيراتها( ).
وفتح البلاد على مصرعيها لأفواج النصارى الصليبيين للبحث والتنقيب ، واكتشاف الآثار، ودراسة الأماكن دراسة دقيقة بل ومساعدته لهم وتذليله الصعاب في طريقهم( ).
لقد قام النصارى بدراسة مراكز الثروة، ودراسة المواقع دراسة تخطيطية ، مما افادهم ولاشك في احتلال مصر فيما بعد عام 1882م خصوصاً إذا علمنا أن كثيراً من هؤلاء المنقبين كانوا من الانكليز ، وكانت هناك أهداف أخر لم يفطن لها كثير من الباحثين ونترك الحديث لأحد المستشرقين في كتابه (الشرق الأدنى؛ مجتمعه وثقافته): (إننا في كل بلد اسلامي دخلناه، نبشنا الأرض لنستخرج حضارات ماقبل الاسلام ، ولسنا نطمع بطبيعة الحال أن يرتد مسلم الى عقائد ما قبل الاسلام، ولكن يكفينا تذبذب ولائه بين الاسلام وبين تلك الحضارات...)( ).
وعلى ضوء ماسبق من أهداف نستطيع أن نفسر أهتمامات هؤلاء النصارى بشق البلاد طولاً وعرضاً ، وإنفاقهم الأموال الطائلة في كشف الآثار وتعريتها بدءاً بالفرنسيين ثم الانكليز الذين ساروا على خط واحد في تنفيذ هذه الأهداف الخبيثة( ).
يقول الاستاذ محمد قطب: (ولكن المخطط الخبيث الذي حمله الصليبيون معهم وهم يجوسون خلال الديار كان هونبش الأرض الاسلامية لاستخراج الحضارات، تمهيداً لاقتلاعهم نهائياً من الولاء للاسلام)( ).
وقدم محمد علي خدمة لمخططات الأعداء بضرب الاتجاه الاسلامي السلفي في الجزيرة العربية تظاهراً بطاعة السلطان العثماني الذي فقد السيطرة على بلاد الحرمين الشريفين، واتخذ من ذلك ستاراً لتنفيذ مخططات بريطانيا وفرنسا اللتين رأتا الوجود السعودي يشكل خطراً على مصالحهما، خصوصاً في الخليج العربي والبحر الأحمر( ).
وقد كان على رأس تلك الجيوش التي وجهها محمد علي ضباط فرنسيون وبعض النصارى( ).
وقد سرّت فرنسا بذلك العمل الحربي المدمر، وكذلك بريطانيا وأبلغت فرنسا محمد علي عن طريق قنصلها في القاهرة أنها ممنونة مما رأته من اقتداره على نشر أعلام التمدن في البلاد الشرقية( ).
وضايق محمد علي باشا العلماء والفقهاء والأزهريين في لقمة العيش وسيطر على الاوقاف التابعة للأزهر وضمها للدولة وبالتالي أحكم السيطرة على المشايخ القائمين على التعليم من رجال الأزهر( ) وحتى الكتاتيب التي تعلم القرآن الكريم والعلوم الأولية للناشئة من أبناء المسلمين ، لم تنج من غائلة محمد علي؛ فقد ذكر الجبرتي -رحمه الله- أن كثيراً من المكاتب أغلقت بسبب تعطل أوقافها واستيلاء محمد علي عليها( ).
وذكر الشيخ محمد عبده أن ماأبقاه محمد علي من أوقاف الأزهر والأوقاف الأخرى لا يساوي جزءاً من الألف من إيرادها. وأنه أخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لوبقي الى اليوم (في عهد الشيخ محمدعبده) لكانت غلته لاتقل عن نصف مليون جنيه في السنة، وقرر له بذلك مايساوي أربعة آلاف جنيه في السنة بينما نجده قد اندفع نحو التغريب وارسال البعثات كما ذكرنا في البحث.
إن هذه السياسة التدميرية التي نهجها محمد علي والتي فرضت قهراً على المسلمين كانت تنفيذاً للمخطط الصليبي الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بسبب اضطرارها للرحيل، وهو أمر أكده المؤرخ الانكليزي أرنولد توينبي في قوله: (كان محمد علي ديكتاتوراً أمكنه تحويل الآراء النابليونية الى حقائق فعالة في مصر)( ).
لاشك أن محمد علي باشا كان صنيعة من صنائع الغرب وعميلاً من عملائهم، سواء كان وصوله الى سدة الحكم نتيجة تخطيط صليبي على الأخص تخطيط فرنسي أو كان نتيجة لدهاء محمد علي ومكره وثقافته أو كان للأمرين معاً ، فإن هذا كله لايغير من الأمر شيئاً، ولاينفي أن محمد علي قد أحتوته الدول الغربية، وأخذت تقوده في ركابها ، وخصوصاً وأن فيه من الصفات والخلال التي ينشدها المستعمرون دائماً كجنون العظمة، وغلظة القلب وفظاظة الطبع ورقة الديانة أو عدمها( ).
وقد عمل محمد علي طوال سنوات حكمه على القضاء على عقيدة الولاء والبراء ، واستخدم سياسة العسف والارهاب والتنكيل في أنحاء مملكته لينتزع هذه العقيدة من قلوب المسلمين، ويقضي عليها قضاءً مبرماً( ).
ومع عظم الهالة التي أحيط بها محمد علي من قبل المستشرقين ومن اقتفى أثرهم من المؤرخين القوميين والعلمانيين حول ما قام به من إصلاحات في كثير من المجالات التعليمية والاقتصادية والعسكرية إلا أنه من الثابت من سيرة محمد علي أنه يكره مسلمي مصر ويحتقرهم ويزدريهم أيما أزدراء ، وليس أدل من ذلك إلا قوله : (ثقوا أن قراري ... لاينبع من عاطفة دينية فأنتم تعرفونني وتعلمون أنني متحرر من هذه الاعتبارات التي يتقيد بها قومي ..وقد تقولون أن مواطني حمير وثيران وهذه حقيقة أعلمها)( ).
وقد كان محمد علي باشا متواطئاً مع الفرنسيين عند احتلالهم للجزائر، حتى لقد هم -بعد أن جاءته الأوامر بالطبع- أن يقوم بنفسه باحتلال الجزائر خدمة للفرنسيين وعملاً لحسابهم الخاص إلا أن أسياده رفضوا تلك الفكرة التي تهيج المسلمين وتثيرهم بعد أن ينكشف أمر عميلهم؛ لذا بادروا الى إلغائها ، واكتفى محمد علي بتزويد الفرنسيين في الجزائر بالغلال( ).
ويذهب الدكتور سليمان الغنام الى أن بريطانيا لما عملت بعزم محمد علي ثارت ثائرتها وهددته بنسف أسطوله إن هو فكر في ذلك.
هذه وقفة مع باشة من باشوات الدولة العثمانية عمل على اضعاف عقيدة الولاء والبراء لدى الأمة المسلمة بشكل مباشر تمثل في سياسة العسف والارهاب، وبشكل غير مباشر اتخذ التغريب له مساراً، لقد استحق محمد علي أن يكون رائد التغريب في العالم الاسلامي العربي التابع للدولة العثمانية وسار أولاده وأحفادهم من بعده على نفس السياسة، فقد ظلوا يتعهدون غراس التغريب والعلمنة ، ويسيرون في نفس الطريق ويتسابقون الى كسب ولاء الغرب ، وخطب وده( ).
إن فئة سلاطين الدولة العثمانية وباشواتها أمعنوا في موالاة الكافرين وألقوا إليهم بالمودة، وركنوا إليهم واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين وعملوا على اضعاف عقيدة الولاء والبراء في الأمة وأصابوها في الصميم، وبذلك تميعت شخصية الدولة العثمانية وهويتها وفقدت أبرز مقوماتها وسهل بعد ذلك على أعداءها أن يحتووها ثم مزقوها شر ممزق.
ثانياً: انحصار مفهوم العبادة:
إن من شروط التمكين التي قام بها العثمانيون الأوائل تحقيق مفهوم العبودية الشامل كما مفهومه من القرآن الكريم والسنة النبوية ، وكما أخذوه عن السلف الصالح رضوان الله عليهم .
ففهموا أن الدين كله عبادة، لذا كانت العبادة بمفهومها الواسع هي الغاية الحقيقية التي خلق الله الخلق لأجلها كما قال تعالى:{وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون}( سورة الذاريات: آية 56). وكانت هي دعوة الرسل جميعاً من لدن نوح عليه السلام الى نبينا محمد لأقوامهم: {ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره} (سورة الأعراف: الآيات 59،65،73،85).
وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (سورة النحل : آية 36).
وقال تعالى:{وما أرسلنا من قبلك من رسولا إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون} (سورة الأنبياء: آية 25).
لقد فهم العثمانيون الأوائل العبادة بمفهومها الشامل الذي أرداه الله عز وجل، وهي أن تشمل كل نشاط في حياة الإنسان: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}(سورة الأنعام: الآية 162،163).
فأصبحت حياتهم حافلة بالأعمال العظيمة من تقوية الدولة المسلمة وتربية دائمة لرعاياها، وتعليم القرآن ، والعلم، وجهاد الكافرين والمنافقين، وقيام على أمور المسلمين ، وتنفيذ لأهداف التمكين ولذلك نجد العلامة الشيخ شمس الدين آق يجمع بين دوره في توجيه الأمة وتعليمها وتوظيف علم النبات والطب والصيدلة لمصلحة المسلمين ، لقد كان هذا الشيخ يتعبد المولى عز وجل بالعلم الديني والدنيوي وكانت له بحوثه في علم النبات ومعالجة الأمراض المعدية وألف في ذلك كتاباً ، وأهتم ايضاً بمعالجة مرض السرطان وكان مجاهداً في صفوف جيش محمد الفاتح، مربياً لعوام العثمانيين على طاعة الله تعالى ومهتماً بتزكيتهم وآمر بالمعروف وناهياً عن المنكر وكان نعم المربي والناصح لمحمد الفاتح، فبعد أن فتحت القسطنطينية جاء محمد الفاتح يدخل في الخلوة مع الشيخ فمنعه الشيخ شمس الدين وقال لمحمد الفاتح: (إنك إذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك، فتختل أمورها ، فيمقت الله علينا ذلك والغرض من الخلوة تحصيل العدالة ، فعليلك أن تفعل كذا وكذا وذكر له شيئاً من النصائح إن هذا الفهم الجميل هو الذي سارت به الدولة العثمانية عندما كان للعلماء الربانيين صدارة التوجيه والإرشاد والتعليم، ولذلك نجد نهوضاً شاملاً في عصر السلطان محمد الفاتح في كافة شؤون الحياة التربوية والسياسية، والاقتصادية والعسكرية، والاجتماعية والعلمية كل ذلك النهوض مستمد من مفهوم العبودية الشامل الذي فهموه من الشريعة الغراء ولذلك نجد في الدولة العثمانية في عصر مجدها وقوتها تفوقاً في كافة المجالات فمثلاً في الجغرافيا يظهر اسم الريس بيري في زمن السلطانين سليم الأول، وسليمان القانوني، وكان الريس بيري، قائداً للبحرية العثمانية، وعالماً جغرافياً فذاً، ولد عام 1465م وتوفي عام (1554م)، كان هذا العالم الجغرافي رائداً من رواد رسم الخرائط في الأدب الجغرافي العثماني وله في هذا المضمار خريطتان هامتان، الأولى لإسبانيا وغرب أفريقيا والمحيط الأطلسي والسواحل الشرقية من الأمريكيتين.. وهذه، قدّمها إلى السلطان سليم الأول في مصر عام 1517م، وموجودة الآن في متحف طوبقبو في إستانبول ( 60×85سم ) وعليها توقيع الريس.
والأخرى لسواحل الأطلسي من جرونلاند إلى فلوريدا ( 68×69سم ) وموجودة الآن في متحف طوبقبو بإستانبول أيضاً.
والجدير بالذكر أن الخريطة التي رسمها الريس بيري لأميركا هي أقدم خريطة لها.
في 26 أغسطس عام 1956م عقدت في جامعة جورج تاون بالولايات المتحدة الأميركية ندوة إذاعية عن خرائط الريس بيري، اتفق كل الجغرافيين المشتركين فيها بأن خرائط الريس بيري لأمريكا : ( اكتشاف خارق للعادة ).
وقد كان الريس بيري على معرفة بوجود أمريكا قبل اكتشافها، ويقول في كتاب البحرية : ( إن بحر المغرب - يقصد المحيط الأطلسي - بحر عظيم، يمتد بعرض 2000 ميل تجاه الغرب من بوغار سبته. وفي طرق هذا البحر العظيم توجد قارة هي قارة أنتيليا )، وتعبير قارة أنتيليا هي الدنيا أو أميركا. وقد كتب الريس أن هذه القارة اكشتفت عام (870هـ/1465م ) أي قبل اكتشاف كولومبس لأمريكا بحوالي 27سنة( ).
لقد ترك ريس بيري كتاباً في البحرية أثار بما فيه من معلومات وخرائط دقيقة، دهشت المعاصرين من علماء الجغرافيا في أميركا وأوروبا، معلومات وخرائط أثبت العالم المعاصر صحتها.
وقد ذكر الراهب الجزويتي لاين هام مدير مركز الأرصاد في ويستون من يدل على عبقرية القائد العثماني ريس بيري في علم الجغرافيا حيث يقول: (خرائط الريس بيري صحيحة بدرجة مذهلة للعقل، خاصة أنها تظهر بوضوح أماكن لم تكن قد اكتشفت حتى أيامه في القرن السادس عشر الميلادي .. إن الجانب المذهل في مكانة بيري، هو رسمه لجبال أنتاركتيكا بتفاصيلها فيما رسمه من خرائط، مع أن هذه الجبال، لم يكن أحد قد تمكن من اكتشافها إلاّ في عام 1952م أي في النصف الثاني من القرن العشرين، وكيف؟ بعد استخدام الأجهزة المتقدمة العاكسة للصوت، أمّا قبل القائد العثماني الريس بيري، يعني حتى القرن السادس عشر الميلادي، لم يكن أحد يعرف أن أنتاركتيكا موجودة، إذ كانت مغطاة بالجليد طوال عصور التاريخ )( )
راق لى
|