خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به
فكيف أبيع حاضرا نقدا مشاهدا في هذه الدار بغائب نسيئة في دار أخرى غير هذه ؟ وينضم إلى ذلك ضعف الإيمان وقوة داعي الشهوة ، ومحبة العاجلة والتشبه ببني الجنس ، فأكثر الخلق في هذه التجارة الخاسرة التي قال الله في أهلها : أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون [ سورة البقرة : 86 ] ، وقال فيهم : فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين [ سورة البقرة : 16 ] ، فإذا كان يوم التغابن ظهر لهم الغبن في هذه التجارة ، فتتقطع عليهم النفوس حسرات .
وأما الرابحون فإنهم باعوا فانيا بباق ، وخسيسا بنفيس ، وحقيرا بعظيم ، وقالوا : ما مقدار هذه الدنيا من أولها إلى آخرها ، حتى نبيع حظنا من الله تعالى والدار الآخرة بها ؟ فكيف ينال العبد منها في هذا الزمن القصير الذي هو في الحقيقة كغفوة حلم ، لا نسبة له إلى [ ص: 105 ] دار القرار ألبتة : قال تعالى : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم [ سورة يونس : 45 ] .
وقال تعالى : يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها [ سورة النازعات : 42 - 46 ] .
وقال تعالى : كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ [ سورة الأحقاف : 35 ] .
وقال تعالى : كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون [ سورة المؤمنين : 112 - 114 ] .
وقال تعالى : يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما [ سورة طه : 102 - 104 ] .
فهذه حقيقة الدنيا عند موافاة يوم القيامة ، فلما علموا قلة لبثهم فيها ، وأن لهم دارا غير هذه الدار ، هي دار الحيوان ودار البقاء - رأوا من أعظم الغبن بيع دار البقاء بدار الفناء ، فاتجروا تجارة الأكياس ، ولم يغتروا بتجارة السفهاء من الناس ، فظهر لهم يوم التغابن ربح تجارتهم ومقدار ما اشتروه ، وكل أحد في هذه الدنيا بائع مشتر متجر ، و كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها .
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم [ سورة التوبة : 111 ] .
فهذا أول نقد من ثمن هذه التجارة ، فتاجروا أيها المفلسون ، ويا من لا يقدر على هذا الثمن ، هنا ثمن آخر ، فإن كنت من أهل هذه التجارة فأعط هذا الثمن : [ ص: 106 ] التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين [ سورة التوبة : 112 ] .
ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون [ سورة الصف : 10 - 11 ] .
والمقصود أن الذنوب تنسي العبد حظه من هذه التجارة الرابحة ، وتشغله بالتجارة الخاسرة ، وكفى بذلك عقوبة ، والله المستعان .
|