عرض مشاركة واحدة
قديم منذ /08-27-2022, 05:05 PM   #155

د. محمد الرمادي

من مبدعي المنتدى

 

 رقم العضوية : 72385
 تاريخ التسجيل : Jul 2011
 الجنس : ~ رجل
 المكان : بين أمواج ورمال الْإِسْكَنْدَرِيَّة
 المشاركات : 7,287
 النقاط : د. محمد الرمادي has a reputation beyond reputeد. محمد الرمادي has a reputation beyond reputeد. محمد الرمادي has a reputation beyond reputeد. محمد الرمادي has a reputation beyond reputeد. محمد الرمادي has a reputation beyond reputeد. محمد الرمادي has a reputation beyond reputeد. محمد الرمادي has a reputation beyond reputeد. محمد الرمادي has a reputation beyond reputeد. محمد الرمادي has a reputation beyond reputeد. محمد الرمادي has a reputation beyond reputeد. محمد الرمادي has a reputation beyond repute
 درجة التقييم : 3594
 قوة التقييم : 2

د. محمد الرمادي غير متواجد حالياً

 

 

 

 

 

أوسمة العضو

25 وسام الحضور المميز مميز فى القسم الاسلامى 

افتراضي [ 38 ] « يُتم „ محمد!

[ 38 ] « يُتم „ محمد ‟! »
ابتلاءات الرسول:
" ١ "﴿ أبلغ اليُتم(1) ﴾

تمهيد لمسألة يتم محمد :
مِن سُنة الحياة ومن نواميسها «„ الابتلاء ‟» سواء أكان في الجسد والصحة البدنية أو النفسية أو العقلية أو المال والتجارة أو العجز الجسدي والأمراض الموسمية العابرة أو المرض العضال الذي يصعب برؤه مع التقدم العلمي الحالي.. وأخيرا في الحياة الدنيا ما يصيب المرء من نهاية محتومة : أي الموت.
سأذكر طائفة من نصوص الوحي بشقيه: القرآن الكريم؛ والسنة النبوية العطرة؛ واللافت أن الإبتلاء والإختبار -بغض النظر عن نوعه ودرجته- يأتي حسب القدرات البدنية أو النفسية وإمكانات الصبر والإحتساب.. والدرجة من الإيمان وثبات العقيدة.
اُقسمُ الآيات البينات إلى مقاطع أو مشاهد ليسهل على المتـأمل لنصوص الوحي إدراك المعني التبليغي والمراد التشريعي من ذكر هذه الآيات الكريمات..
فأبدء العرض الموضوعي لهذه المسألة «„ الابتلاء ‟» بتعبير مناسب للنفس البشرية بصفة عامة.. إذ نطق الذكر الحكيم فجعل «„ الابتلاءَ بِـ "شَيْءٍ" ‟» من الخوف.. وليس بالخوف كله..
والناظر في مقاطع آية البقرة يجد خمسة مشاهد، فجاء في سورة البقرة قول مَن رفع السموات بغير عمد نراها: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم ﴾ ﴿ بِشَيْءٍ ﴾ ( ١ ) المشهد الأول؛ ﴿ مِّنَ الْخَوْفِ ﴾
( ٢ ) أما المشهد الثاني: ﴿ وَالْجُوعِ ﴾
( ٣ ) المشهد الثالث يتحدث عن ﴿ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ ﴾
( ٤ ) المشهد الرابع: ﴿ وَالْأَنفُسِ ﴾
( ٥ ) والمشهد الخامس يتحدث عن نقص ﴿ وَالثَّمَرَاتِ ﴾ ..
والنص الكريم لم يترك حالة إنسانية وإلا وهي تنطوي تحت واحدة من هذه الخمس المذكورة..
ثم يأتي بحكمٍ شرعي بعد هذه أو بعض الإبتلاءات المذكورة وهي بشارة إلهية لمَن صبر وأحتسب فنطق القرآن

يقول : ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾(2)

ثم يأتي الإبتلاء سواء أكان بالإنعام والإكرام أو بقلة الرزق..
وجعلهما القرآن العظيم إبتلاءً؛
فقال: ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ﴾ ﴿ ابْتَلَاهُ رَبُّهُ ﴾ ﴿ فَأَكْرَمَهُ﴾ ﴿ وَنَعَّمَهُ ﴾ ﴿ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴾ *.. فجعل سبحانه الإنعام والإكرام ابتلاءً..
وهذا إبتلاءُ الإنعام؛
ثم
يأتي بعكس الإنعام وخلاف الإكرام في قوله : ﴿ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ ﴾ ﴿ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ ﴿ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾ * يأتي الرد مباشرة بـ ﴿ كَلَّاۖ ﴾ ثم يذكر حالات ما جرى بسببه الإبتلاء: ﴿ بَل لَّا تُكْرِمُونَ ﴾ ﴿ الْيَتِيمَ ﴾ * ﴿ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ * ﴿ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ﴾ * ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾(3)

الله جل وعلا وهو العليم الخبير الحكيم يخبرنا باسلوب بلاغي يناسب العقل البشري والإدراك الإنساني والفهم الآدمي فيقول:" ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ﴾ ﴿حَتَّىٰ ﴾ ﴿ نَعْلَمَ ﴾ مراد العليم الخبير أن ترى بنفسك رد فعلك بما تم من اختبارك.. ﴿ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ ﴾ في كافة أنواع الإبتلاءات والإختبارات والإمتحانات ويحدد ما يتصفون به﴿ وَالصَّابِرِينَ ﴾ ﴿ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾(4).

وأخيراً أعتبر الوحي المنزل من فوق سبع سموات طباقا „الموت‟ بأنه „مصيبة‟ فقال . ﴿ مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ﴾(5).
ولا نغفل السنة النبوية المحمدية بخصوص مسألة الإبتلاء.. وهي جزء من الوحي السماوي الذي نزل به أمين السماء جبريل -عليه السلام- على قلب أمين السماء والأرض محمد بن عبدالله؛
ولنأتي بمثال منها .
جاء في المستدرك على الصحيحين؛ للحافظ النيسابوري في » كتاب الفتن والملاحم »؛ الجزء الخامس:" حديث رقم "8835 .. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وقد خرَّجه الترمذي في سننه » كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» ؛ " بَاب مَا جَاءَ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ؛ حديث رقم: 2396 .. عَنْ أَنَسٍ .. وذكر الترمذي الحديث.

وقد جاء في شرح المباركفوري:" على تحفة الأحوذي:" قَوْلُهُ : إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ.. أَيْ أَسْرَعَ لَهُ الْعُقُوبَةَ.. أَيِ الِابْتِلَاءَ بِالْمَكَارِهِ.. فِي الدُّنْيَا.. لِيَخْرُجَ مِنْهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ. وَمَنْ فُعِلَ ذَلِكَ مَعَهُ فَقَدْ أَعْظَمَ اللُّطْفَ بِهِ وَالْمِنَّةَ عَلَيْهِ. أَمْسَكَ.. أَيْ أَخَّرَ عَنْهُ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ بِذَنْبِهِ أَيْ بِسَبَبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.. أَيْ حَتَّى يَأْتِيَ الْعَبْدُ بِذَنْبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي لَا يُجَازِيهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يَجِيءَ فِي الْآخِرَةِ مُتَوَفِّرَ الذُّنُوبِ وَافِيهَا، فَيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنَ الْعِقَابِ ".

وجاء عند الترمذي؛حديث رقم :" 2396: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ؛ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا؛ وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ". قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
**
وما سبق ذكره من أنواع لم أحصرها من الإبتلاءات ولكني أتيت بأمثلة فقط فهذه كلها تمت بإرادة الله وقضاءه وقدره ووفق ناموس الحياة وسنن الوجود.. له سبحانه وتعالى حكمة من ذلك كله لا ندركها كبشر.. ولكن بعضاً من السادة العلماء سمح لنفسه في البحث عن مدلولات وشواهد في إطار ما تحصَّل عليه مِن علم يعينه على فهم هذه الظاهرة البشرية «„ الابتلاء ‟» التي تصيب البعض منا لذلك نبحث معاً مسألة «„ يُتم محمد ‟» رسول رب العالمين وخاتم السادة المرسلين وآخر الأنبياء الأجلاء ومتمم المبتعثين صلى الله عليه وآله وسلم.. .
أما :" حكمة اليُتم التي مر بها الرسول في فترة مبكرة جدا من حياته، فـ إنها حكمة التماسية.. بمعنى أنه لا يوجد نصوص شرعية تحدد لنا مثلا : حكمة "يُتمه" أو حكمة "رعي الغنم"، لكننا نلتمس عظات من ذلك(6).".
وقال آحدهم:" تأملتُ في هذه المسألة؛ وبحكم دراساتي في قضية القيادة وتأملي في تاريخ العظماء وجدت أن كثيراً من العظماء كانوا أيتاماً، وهذه حكمة عظيمة في قضية القيادة(7).".

ويرى آخر:" أن هذا اليُتم كان يمثل معجزة أراد الله بها أن يقول إن هذا الصبي الصغير الذي عاش يتيماً ونشأ في أحضان اليُتم، لم يكن ليتأثر بتربية أبوية أو ليتأثر بأم توجهه، ولم يكن متأثراً حتى على مستوى عمه أبي طالب ولا على مستوى جده عبدالمطلب. ويشرح ذلك قائلا: المعجزة الإلهية أرادت أن يكون طفلاً مبرئاً من كل تأثيرات ثقافية سوى تلك التي هيئها الله له منذ أن كان في صلب والده وبطن أمه، لأنه هو المختار من قبل الله سبحانه وتعالى. وأضاف أن حالة اليُتم هي حالة يراد منها فعلاً أن ينزه عن أي مؤثرات يمكن أن تحمل الآخرين على أن يقولوا إن الذي تحصل عليه إنما من ثقافة والده أو ومن ثقافة والدته (8)".
**
وأسألُهُ -سبحانه وتعالى- أن يوفقني إلى صحيح الفهم.. ويلهمني حسن الإدراك وأن يفتح عليَّ فتوح العارفين ويبعد عني الخطأ والزلل فهو السميع المجيب.
**
عَنْون كثيرٌ من السادة أهل العلم والمعرفة هذه المسألة
«„ ابتلاء يُتم محمد ‟»؛
فمنها عنوان :
" كان مولده صلى الله عليه وآله وسلم تكريما لليتامى ". و
كَتبَ آخر يقول :" شاء الله تعالى ان يكون نبيه ومصطفاه محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم يتيماً، ولم يكن يُتيم الأب فقط بل كان يُتيم الأبوين معا".
وكاتب هذه السطور يزيد على هذا:" أن جده مات بعد برهة يسيرة من الزمن مِن موت أمه الشابة الأرملة السيدة آمِنة بنت وهب الزُهرية. فـ

على الترتيب وخلال السنوات الثمانية الأولى من طفولة محمد المبكرة :

١.] توفي والده صلى الله عليه وآله وسلم (عبدالله بن عبدالمطلب الهاشمي) وهو في بطن أمه ودُفن في المدينة.

٢.] توفيت أمه صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن ست سنوات ودفنت في الأبواء (بين مكة والمدينة).

٣.] توفي جده صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن ثمان سنوات ودفن في مكة.(9).
**
كما بحثوا الحكمة من وراءها..!!

..... مقدمة بحث يتم محمد

ما زلنا نتعايش طفولة نبي الإسلام وخاتم المرسلين ومتمم المبتعثين صلوات الله تعالى وسلامه ورحماته عليه وآله.. نتعايش طفولته المبكرة فقد عاش الحبيب صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله يتيمًا يتنقل من كفالة لكفالة، إلا أن كفيله الأكبر الذي أواه هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي تكفل به، يقول تعالى: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ } (10) ليربيَّه بعين الرعاية: { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } (11)، وكما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: "أدبني ربي فأحسن تأديبي(12)".
إن من حكمة الله البالغة أن جعل خاتم أنبياءه محمدا يتيماً فقَد الوالدين من صغره ثم آوله الله إلى كنف من يكنفه وجعله سيداً ومثالاً لجميع العالمين. واليُتم: الإنفراد أو الإبطاء: قيل منه أخِذ اليتيم لأن البر يبطئ عنه (13)
واليتيم في اللغة: هو ذلكم المنقطع عما يلتصق به؛ وهو في العرف الشرعي: كل من فقد أباه قبل البلوغ، فإذا بلغ خرج عن كونه يتيماً(14).
قال العلامة الآلوسي:"اليُتم: " انقطاع الصبي عن ابيه قبل بلوغه(15) . و
اليتيم: مَن فقد أباه ولم يبلغ مبلغ الرجال(16) فإن حال اليتيم هو منتهى الضعف وانعدام الحيلة.. وقد بدأ محمد حياته يتيماً.. والملك والسيادة هو ذروة السلطة المادية؛ وقد انتهت حياته إليها "(17).
*.) المُرضعات يأبيّن اليَتِيم :"
والأمر الملاحظ كما ترويه السعدية حليمة:" .. فما منا امرأة إلا وقد عُرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها: إنه يَتيم.. وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يَتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده؟ فكنا نكرهه لذلك.. فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعاً.. فقلت لزوجي: " والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنَّه"، فقال:" لا بأس عليك.. أن تفعلي.. عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة (18). ".

يَتيم الأبوين :

وبعد أن عاد محمد إلى أمه في مكة بعد غربة عنها دامت قريباً من خمس سنوات؛ بدأ حياته مع أمه الحنون آمنة بنت وهب الزُهرية والتي كانت في غاية الشوق إليه.
ولحكمة غائبة عنا لا يعلمها إلا الخبير العليم البصير.. لم تبق هذه العيشة الهنيئة التي ذاق الطفل محمد فيها حنان أمه وشمله عطفها وملأ كل جوانحه حبها ورعايتها ما جعله في أشد تعلق بأمه.. هذه العيشة الهنيئة لطفل تجاوز ست سنوات إلا قليلاً لم تتعد عدة شهور أو سنة واحدة على الأكثر حتى غابت عنه فجأة إلى يوم القيامة.
تَخَيّلْ هذا الصبي اليَتيم!!؟.. رأى أمه تموت بين يديه في الصحراء.. ولم يكن معه إلا امرأة حبشية حاضنته -أم أيمن- بركة رضي الله عنها.. وهي المرأة الوحيدة.. بل أزد أنها الإنسان الوحيد -حسب علمي؛ وما تحت يدي من مراجع ومصادر- التي عاشت ورافقت محمد وهو حمل في بطن أمه فالوليد.. فالرضيع.. فالطفل.. والصبي.. والشاب.. والرجل.. والكهل.. قبل نبوته وبعد نزول الرسالة عليه.. أي منذ ميلاده إلى إنتقاله إلى الرفيق الأعلى.. لذا نحتاج لإلقاء أضواء على سيرتها مع نبي الإسلام.. كما لم ينس ذكرى أبيه من قلبه؛ وصورة قبره لم يزل أمام عينيه.. وهو لم يتجاوز من عمره إلا ست سنوات.. وبالقرب من يثرب؛ والتي ستكون مدينته المنورة ضاع منه ملجأه الحبيب ومأواه الوحيد.

في كفالة جده:"

وقع خبر وفاة آمنة بنت وهب الزُهرية على جده عبدالمطلب؛ بل على جميع أهل مكة كالصاعقة؛ وشق على الجد الشيخ يُتم حفيده في هذه السن الصغيرة المبكرة فاحتضنه في كنفه وجعله تحت رعايته ليعوضه فقدان كل مِن الأب والأم(19).
وما طالت هذه الكفالة المباركة حتى توفي جده عبدالمطلب بن هاشم لثماني سنوات وشهرين وعشرة ايام من عمره(20). فالطفل محمد لم ير أباه ثم بعد حين ماتت أمه الحنون وبعدها بيسير مات جده العطوف.. ونبينا صلى الله عليه وسلم ولدته أمه وقد توفي أبوه وهو حمل عليه الصلاة والسلام، فأخبر الله جل وعلا بأمر واقع ومشهود، ولذلك قريش كانت تسمي النبي عليه الصلاة والسلام: يتيم أبي طالب ؛ لأنه نشأ في كنف عمه أبي طالب ،
**

فلِم جعله الله يتيماً.. فآواه:"
قد يسأل سائل: ما الحكمة من يُتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
ومما لا شك فيه أن الله الحكيم الخبير.. العليم البصير هو الذي ربّاه يتيماً منذ صغره في رعاية مَن يريد من عباده ليجعله خاتما لسلسلة الأنبياء؛ وآخر المرسلين.. ليكون إنساناً كاملا قبل النبوة وبعد الرسالة.. فقدر الله يُتمه وقضاه فإيواءه من عند الله سبحانه { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ } (21). وكما قال الله تعالى حكايةً عن فرعون لموسى حيث رباه في قصره الملكي (22) { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا }. فـ
كان أول أمره في رعاية السعدية حليمة رضيت باليَتيم حين تأباه غيرها.. ثم في حضن؛ وعلى صدر أمه سنة واحدة من حياته؛ وبعد ذلك في كنف جده الحاني.. سيد قريش لمدة سنتين من عمره ثم في رعاية عمه الفقير المقل لسنوات طوال ثم مات -العم- قبل الهجرة المباركة بثلاث سنوات.
**
وأرى حِكَمَاً بالغة ودروساً هامة في كونه يَتيماً صلى الله عليه وآله وسلم وفي عيشه في كفالات عديدة؛ والجواب والله أعلم على سبيل المثال:

*.) انه صلى الله عليه وآله وسلم ليس كغيره من البشر في خَلقه وخُلقه، فان من معاني اليُتم: التفرد والتوحد، بمعنى ان يكون فيه شيء ليس في غيره كقولهم: درة يتيمة. وفي الصحاح للجوهري قال:" وكل شيء مفرد يعز نظيره فهو يتيم.. يقال: درة يتيمة تنبيها على انه قد انقطعت مادتها التي خرجت منها".(23).
ورحم الله شوقي حيث قال:
ذكرت باليتم في القرآن تكرمة ** وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم

*) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلغ أبلغ اليُتم وأعلى مراتبه» .
*.) لئلا يكون لأحد مِنَّةً سوى كفالة الحق تعالى؛ حتى لا يكون لأحد كائن مَن كان فضل عليه صلى الله عليه وآله وسلم فيما هو فيه من نعمة لأن فضله مستمد من الله تعالى مباشرة وليس من انسان، ولذلك قيل لمحمد بن جعفر الصادق: لم أوتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أبويه؟. فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه حق(24) .

*.) حتى يتولى الله تعالى تربيته ويصنعه على عينه، ولذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) (25).
*.) وقد يكون حكمته تعالى تقتضي أن يكون بيّناً بعيداً عن التدلل فيأدبه ربه فيحسن تأديبه.
*.) يُتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه رداً على المبطلين دعواتهم بأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تلقَّى دعوته بتوجيهات وإرشادات والده أو مكانة جده في قريش(26).

*.) نشأة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طفولته مع والدته وقد كان مثله بعض الأنبياء مثل: إسماعيل وموسى وعيسى ويدل هذا على أهمية اختيار الزوجة(27).

*.) شاء الله سبحانه وتعالى أن يجعل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم يتيماً حتى لا تدخل يد أب حانية في توجيهه بل يتولاه الله سبحانه وتعالى ولا يتلقّى شيئاً من مفاهيم وأعراف وعادات الجاهلية وإنما يتلقّى من لدن حكيم خبير سبحانه وتعالى(28).

*.) . تقوية عزيمته على فضيلة التوكل على مولاه سبحانه، فاذا حزبه امر لا يقول: أبي ولا أمي ولكن يقول ربي.
ولذلك لما ارادت أمه آمنة من باب الوفاء لزوجها إن تزور قبره في المدينة واخذت معها ولدها محمدا وكان عنده يومها ست سنوات وجلس محمد صلى الله عليه وآله وسلم امام قبر ابيه الذي لم يره في حياته، وفي طريق العودة الى مكة وبينما هو عند مكان يسمى الابواء بين مكة والمدينة شكت أمه آمنة وجعا آلم بها وفارقت الحياة في هذا المكان وهي تتعلق بابنها وتقول له:" يا محمد كن رجلا". وعندها نسي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آلامه وأحزانه وعاد مع حاضنته أم أيمن التي كانت ترافق مع أمه في هذه الرحلة..فهو كان رجلا في طفولته، رجلا في شبابه، رجلا في شيخوخته بل كان بين الرجال بطلا وبين الابطال مثلا.

*.) ليعرف من تتابع الأموات أمامه؛ أن هذه الدنيا فانية ليس تبقي على أحدٍ.

*.) ليتعلم الحياة منذ صغره ويعرف الغنى والفاقة والسيد والفقير.

*.) ليتعلم تحمل المسؤولية والمساعدة والمشاركة في الأمور.. فقد اكتسبها من رعاية الغنم -وسنتكلم عنها في فصل قادم- كما اكتسب منها الصبر والتحمل واليقظة والقدرة على إمساك زمام الأمور وجمع الشتات.

*.) ليعرف الزهد والكفاف والتباعد عن الدنيا ليكون نموذجاً للأمة في الإمتناع عن التكالب على الدنيا.

*) وقد يكون من حكمة الله تعالى أن يجعله وحيداً لا أخ له شقيق كما لم يعش له الأبناء (الذكور) من أولاده. (ولا ننسى ما نسبت فرقة الشيعة إلى علي كرم الله وجهه.. وهو ابن عمه دون شقيقه) .

*.) ولم يجعل الله يُتمه ممقتاً على قومه ومغضباً عليهم لحرمان الحب والحنان والعطف بل جعله في رعاية من يحبه حباً لا مثيل له؛ فتربى في كنفهم..ولذا صار رغم يُتمه وفقره سيد شباب قريش.. قال عمه عند خطبته خديجة رضي الله عنها:" إن ابني هذا: محمد بن عبدالله لا يوزن به رجل شرفاً ونبلاً وفضلاً؛ فإن كان في المال قلَّ؛ فإن المال ظل زائل؛ وأمر حائل؛ ورعاية مستردة(29) . والله أعلم (30)

*.) إن يكرم اليتامى في شخصه صلى الله عليه وآله وسلم فان الطفل من اطفال المسلمين اذا نشأ يتيما ورأى الاطفال ينعمون بآبائهم فان سلوته في أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نشأ يتيما، ومن هنا يهون عليه يتمه ما دام فيه شبه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

*.) يُتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه أسوة للأيتام في كل مكان وزمان ليعرفوا أن اليُتم ليس نقمة وأنه لا يجب أن يُقعد بصاحبه عن بلوغ أسمى المراتب وأعلاها.
*.) الوصية باليتامى، لأنه نشأ يتيما وقاسى آلام اليتم.. قال النيسابوري: قال اهل التحقيق: الحكمة في يُتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن يعرف قدر الأيتام فيقوم بأمرهم، وان يكرم اليتامى المشاركين له في الاسم، ولذا كان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) وأشار باصبعيه: السبابة والوسطى، (31).
والنبي ذاق مرارة اليتم ليكون الأب الحاني للأيتام عبر التاريخ كله؛ ورأى في أمه الترمل ليكون اللمسة الحانية للأرامل في التاريخ كله؛ وذاق مرارة الفقر ليدرك معاناة الفقراء في التاريخ كله، وهكذا جميع صور الحياة وتقلباتها التي مر بها صلى الله عليه وآله وسلم، والتي قال عن نفسه التي صاغتها هذه الأحداث إلى أن تلقى الرسالة :" أدبني ربي فأحسن تاديبي."(32).
وأنهي هذا البحث بالقول:"
*.) أن الحكمة من كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولد وعاش يتيمًا حتى لا يقول أهل الشرك والكفر أن الإسلام قد انتشر واستقر بفضل عشيرته وأهله، أو يقولوا إن أباه قد نصره أو إن جده أو عمه قد تعصبوا له فانتشر الإسلام بدعمهم، فالله سبحانه وتعالى أراد أن يكون الفضل كله لله. ولعل هذا إشارة واضحة لأهل العلم ورجال الدعوة.
ومن الحكمة كذلك من نشأة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم يتيمًا ألا يدعي البعض أن سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد تلقى دعوة الإسلام وتعلمها من أبوه أو من جده ليكون لقومه السيادة على قريش.
يقول الإمام الشهيد الدكتور محمد رمضان البوطي في كتابه "فقه السيرة النبوية": "لقد اختار الله عز وجل لنبيه هذه النشأة لحكم باهرة، لعل من أهمها أن لا يكون للمبطلين سبيل إلى إدخال الريبة في القلوب أو إيهام الناس بأن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم إنما رضع لبان دعوته ورسالته التي نادى بها منذ صباه، بإرشاد وتوجيه من أبيه وجده. هكذا أرادت حكمة الله أن ينشأ رسوله يتيما، تتولاه عناية الله وحدها".
ولعل ما ذكرته يعتبر من الفوائد في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاش يتيماً".

وهذا ما أعتبره الإبتلاء الأول في سيرة النبي المختار صلى الله عليه وآله وسلم ".


ملف يُتم محمد - رسول الرحمة والهدى- من إعداد :
محمدفخرالدين الرمادي







  رد مع اقتباس