الأعمال التشكيلية المعاصرة الأعمال التشكيلية المعاصرة
في بدء تجارة الفن المعاصرة كانت هناك بعض المعايير المتفق عليها: كأن يكون العمل التشكيلي وحيدا ونادرا وغير قابل للتعويض. ويكون الشيء نادرا عندما يكون العرض أقل بكثير من الطلب.
فالذي يملك هذا الشيء يحاول الحفاظ عليه وحمايته، ليس فقط من تخريبه وإنما أيضا من ألا يحرم منه لصالح إنسان أو أمة أخرى. إن ارتفاع سعر العمل النادر يعود لاهتمامات الفرد والأمة لتبادل أشياء نادرة ذات دلائل ثقافية مع أشياء أخرى ذات قيم مادية كالأوراق المالية والذهب. لهذا على الأعمال التشكيلية أن تحمل علامات ودلائل تسهل التعرف عليها وعلى مكان وتاريخ صنعها، وذلك ليتم التعرف على أغراض وطرق استعمالها وأهدافها الثقافية. إن الشيء النادر لم يتعلق فقط بعملية العرض والطلب، وإنما أيضا بصفاته: كصغر أو كبر حجمه مثلا، حيث لا نجده غالبا. لكن ندرة الشيء ذات حدين، فهي ميزة ونقيصة على حد سواء. إن الشيء النادر قد يثير الاهتمام بتمايزه عن الآخرين كما يمكن إهماله لأنه لا يتكرر، فهو محيّر لا يمكن ربطه وتصنيفه مع الآخرين، فهو وحيد ومنعزل، لا يقوم بدور الاتصال والحوار مع الآخرين، فهو لا يمثل جزءا من مجموعة متكاملة. وبعض الأشياء النادرة مثل الذهب والألماس، غاليي الثمن لأن الحصول عليهما صعب ويتطلب مشقة كبيرة. لهذا تقوم بعض الشركات بإتلاف قسم من إنتاجها لتحافظ على ارتفاع أسعارها. لقد قام بعض الفنانين ـ مثل روو بحرق قسم كبير من إنتاجه الفني بناء على طلب تجار الفن. وهناك معايير أخرى تبناها في بدء الأمر تجار الفن، مثل: أن يكون العمل التشكيلي نظيفا وفي حالة جيدة، وأن يكون له ميزات خاصة ظاهرة وخفية، مثل مراحل تطور تقنية وأسلوب عمل الفنان، ودخول الفنان تاريخ الفن، فلوحات الفنان المعلم ذات أسعار أكثر ارتفاعا من أسعار لوحات تلاميذه. وعلى اللوحة أن تكون موقعة من قبل الفنان ومؤرخة.
هناك بعض العوامل التي تساعد على رفع سعر العمل التشكيلي مثل: مشاركته في معارض متعددة محلية وعالمية، أو أن يكون معارا إلى أحد المتاحف. كما ترتفع أسعار العمل التشكيلي إذا كان الفنان متوفى، لأن إنتاجه توقف وأصبحت أعماله محدودة العدد، ما يجعل العرض في السوق التجارية محدودا، وتدخل بذلك أعمال الفنان عالم الماضي والقدم. كما يرفع من أسعار لوحاته دخول بعض أعماله إلى المتاحف المحلية والعالمية. لأن دخول بعض أعمال الفنان إلى المتاحف يعني أنه دخل مجال المعرفة الوطنية والعالمية. وقد أصبح جزءا من الثقافة الرسمية. فعند شراء عمل ما لهذا الفنان يعني أن رفع سعر العمل أصبح مضمونا، لأن العمل التشكيلي أصبح يحمل قيما ثقافية رمزية معترفا بها على المستوى الاجتماعي العام. لقد كان على العمل الفني أن يكون سلعة واضحة المعالم، لكي يعرف المشتري أين يضع أمواله.
إذا كانت هذه هي الشروط الأولى لنشوء تجارة الفن، فإن التجارة المعاصرة استطاعت أن تصنع هذه العوامل. إذا كان تجار الفن يملكون عشرات الألوف من اللوحات، فهم لن ينتظروا التطور الطبيعي لرفع أسعار الأعمال التشكيلية، بل سعوا إلى إيجاد الشروط الملائمة وتحضيرها بشكل مفتعل، كما سعوا إلى إيجاد شروط ودوافع جديدة. لقد استطاعوا إيجاد شروط ملائمة لتنشيط الطلب على الأعمال التشكيلية، وذلك بالتأثير على مديري المتاحف ومؤرخي الفن، لأن المعارض والمتاحف وكتب التاريخ تؤثر على وعي الجمهور، وتكوين الثقافة العامة. كما يتم التنشيط عن طريق إثارة الفضائح الفنية وبث الشائعات وأوهام حول صعود نجم هذا أو ذاك من الفنانين، وعن اكتشاف مدى أهميته وعبقريته التي كانت منسية. إن الشاري للأعمال التشكيلية لا ينظر فقط إلى السعر الحالي للعمل، بل ينظر عند الشراء عن احتمال ارتفاع سعر هذا العمل.
لرفع أسعار عمل تشكيلي ما وتنشيط الإقبال عليه يخلق جوا من المزاحمة على الشراء، وهذا نلمسه خاصة أثناء عمليات البيع بالمزاد العلني. وكذلك استعمال الدعاية للتعريف بالعمل التشكيلي وبالفنان، هذه الدعاية تستعمل نفس أسس دعاية المواد الاستهلاكية المختلفة. ومن العوامل المنشطة أيضا إقامة المعارض، وإصدار الإعلانات والكتب، وإقامة الندوات الثقافية، حيث الدعاية تتنوع بتنوع الجمهور الموجهة إليه.
لإدخال الأعمال التشكيلية إلى المتاحف عمد تجار الفن إلى استعمال حجج مختلفة مثل: إن أعمال هذا الفنان قد صدر عنها فضيحة كبرى، وهي تعتبر نقطة تقاطع وانفراج نحو اتجاهات حديثة. بهذا استطاع تجار الفن أن يفرضوا بضاعتهم على المتاحف المختلفة، باسم تكميل تاريخ الفن أو تعديله، وباسم البحث العلمي، لكي لا يكون هناك نقص وانقطاع في سلسلة تاريخ الفن.
إن تصنيف الأعمال وإبراز أهميتها التاريخية من قبل مؤرخي الفن يجب أن يخضع عادة إلى معايير علم التاريخ. هذا العلم الذي يساعد على تفسير الأحداث الماضية، والذي يعتمد عند إعطاء أهمية لعمل ما أن يكون هذا العمل التشكيلي قد أثار فضولا فكريا، وكذلك ما يسجل موضوعه من أحداث تاريخية مهمة، وصور اجتماعية بارزة، وقيمة تشكيلية بارزة. ومنذ تدخل رأس المال في قضايا الفن الفكرية والجمالية صار عرض الماضي والتاريخ يعاني من تفاسير جديدة متعددة، في أغلب الأحيان متضاربة. نحن نعلم أن علم التاريخ هو علم متحرك ومتطور، ونحن نعلم أن الاكتشافات الجديدة وتعديل الأخطاء هما قاعدة أساسية في هذا العلم، لكن ذلك لا يبرر أبدا استخدام هذه القاعدة كمبرر للمضاربات المالية. لقد وصل تاريخ الفن إلى حالة عقيمة، فلم يعد هناك من معيار، ولا قاعدة سوى قاعدة المضاربة المالية، والمصلحة الشخصية لتاجر الفن.
إن بعض التعديلات في تاريخ الفن، وإن كانت ضرورية، إلا أن الفضائح المالية التي رافقتها أساءت كثيرا إلى هذه التعديلات، وبدأ الناس يشكون في صحتها. إن لوحة الغريكو "الشفقة" المرسومة عام 1585 بيعت عام 1908 بـ 3500 فرنك فرنسي إلى استافروس نياركوس، بينما أصبح سعرها عام 1950، 90 مليون فرنك فرنسي. وذلك بعد أن قام مؤرخ وتاجر الفن بيرنار بيرانسون ومدير متحف برلين بود وتاجر الفن دوفين بالمساهمة في إعادة تقييم الغريكو، وكذلك أعمال القرنين الثالث والرابع عشر، حيث باعوا هذه الأعمال إلى مشترين أمريكان وأوروبيين. وكذلك الحال ومنذ عام 1922 تمت إعادة تقييم فن الباروك عن طريق إقامة عدة معارض في فلورنسا وإصدار عدد من الكتب حول ذلك. أما في مجال الفن الحديث فاستطاع تجار الفن إدخال أعمال فنية لا تمثل أي شيء إلى المتاحف المختلفة تحت شعار "أعمال تمثل بحوثا خاصة وجديدة في بنية ومواد وأشكال العمل الفني"، وبما أن كل عمل تشكيلي مهما كانت جديته يحوي مواد وأشكالا، إذا كل عمل تشكيلي يصبح مهما في حد ذاته وأهلا ليعلق في المتحف، وكما يقول كنيث كلارك: "لم يبق معيار للعمل الفني سوى شرائه بأسرع وقت ممكن". ومن المعايير المستعملة لتبرير إدخال عمل تشكيلي ما إلى المتحف كون هذا العمل قد صدر عنه عند عرضه تضارب في الآراء، إذن أصبح حدثا تاريخيا لم يجزم بأمره. مع أن النزاع كان مدبرا ومرتبا. فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى ومنذ ظهور اتجاه الدادا الذي اعتمد على مبدأ الفضيحة تلاحقت الفضائح الواحدة بعد الأخرى، لتنتهي بظهور التجريد. واستثمر هذا المبدأ المدرسة السريالية، خاصة سلفادور دالي.
|