عرض مشاركة واحدة
قديم منذ /05-19-2009, 08:48 PM   #1

الأبتسامة صدقة
 

 رقم العضوية : 19104
 تاريخ التسجيل : May 2009
 العمر : 43
 المكان : الأسكندرية
 المشاركات : 96
 النقاط : الأبتسامة صدقة will become famous soon enough
 درجة التقييم : 50
 قوة التقييم : 0

الأبتسامة صدقة غير متواجد حالياً

إرسال رسالة عبر MSN إلى الأبتسامة صدقة إرسال رسالة عبر Yahoo إلى الأبتسامة صدقة
أوسمة العضو
افتراضي نهاية عصر مجيد / بقلم‏:‏ د‏.‏ حمدي حسن أبوالعينين

نهاية عصر مجيد
بقلم‏:‏ د‏.‏ حمدي حسن أبوالعينين




حينما سئل مئات من المؤرخين والفلاسفة عن أعظم الإنجازات البشرية عبر كل العصور اختلفوا‏,‏ إلا علي شيء واحد وهو الطباعة‏..‏ فلم يظهر في تاريخ الإنسان اختراع كان له تأثير الطباعة في التعليم والسياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية‏,‏ هي التي نقلت الإنسان من عصر السحر إلي عصر العلم وحررت العقل من أغلال الوهم وقوضت إمبراطوريات الظلم والاستبداد‏,‏ وأضاءت أينما وجدت كل عقل بشري فانتقلت به من سجن القهر إلي رحابة الحرية‏..‏ أهدت إلي البشرية في كل مكان أفضل أساليب المعرفة والتنوير‏,‏ وهما الكتاب والصحيفة‏..‏ كانت الأم الحقيقية للحضارة الحديثة التي من رحمها عرف ملايين الناس كيف تولد الأفكار والمخترعات والفلسفات التي صاغت شكل الحياة الإنسانية علي مدي القرون الأربعة الماضية‏..‏ وهي التي مكنت قطاعات هائلة من البشر أن تعيد اكتشاف الماضي والتاريخ الذي كان مغلقا إلا أمام قلة قليلة من الناس‏.‏

هذا الاختراع الإنساني العبقري تتهدده اليوم تكنولوجيا الاتصال الرقمية التي ملأت الدنيا من حولنا‏,‏ يتخوف البعض من اختفاء الكتب والصحف الورقية لحساب النشر الإلكتروني‏..‏ والقضية ليست أن تحل هذه محل تلك‏,‏ ولكن تراجع المطبوعات سوف تتراجع معه أنماط من التفكير وأساليب من الكتابة وفنون من الأدب وأشكال من الإبداع مكنتنا من بناء حضارتنا الراهنة‏..‏ فالطباعة كانت قاعدة لكل مستحدث تكنولوجي واجتماعي ظهر بعدها‏,‏ ولكنها تبدو اليوم وكأنها تستعد للنزول من قمة التل الذي توجت ملكة عليه أربعة قرون كاملة‏,‏ وأعطت اسمها لعصر من أزهي عصور الاتصال الإنساني‏.‏

لست من المؤمنين بظاهرة الإحلال التكنولوجي‏,‏ حيث تحل وسيلة جديدة تماما محل أخري قديمة‏..‏ فالنشر الإلكتروني لن يصبح بديلا كاملا عن المطبوعات‏,‏ ولكن الأخير يتراجع‏,‏ وقد دافعت عن ذلك طويلا فيما كتبت وفيما حاضرت وفيما ناقشت‏.‏

واليوم أعترف أن الطباعة بدأت عصرا من التراجع الذي لا نعرف مداه ولا ندري تأثيره ولا طبيعة البديل عنها‏..‏ فالتكنولوجيا الرقمية تزداد تألقا وانتشارا في مستقبل يكتنفه الغموض‏,‏ بينما تتراجع قدرات منتجي المطبوعات علي التكيف مع العصر الجديد‏..‏ فالصحف التي تتحول إلي نسخ إلكترونية تزداد وعدد الكتب التي تنشر إلكترونيا ينمو أيضا‏..‏ وفي كل عام يقتطع الاتصال الإلكتروني أعدادا كبيرة من جمهور المطبوعات‏..‏ ربما تمر أجيال قبل أن ترضي المطبوعات بنصيبها المحتوم بين وسائل الاتصال الجديدة‏,‏ ولكننا لا ندري علي وجه اليقين كيف يكون شكل العالم وهو أكثر اعتمادا علي تكنولوجيا الاتصال الرقمية‏.‏

قبل أكثر من خمسة قرون كانت مطبعة جوتنبرج تنتج للمرة الأولي كتابا مطبوعا‏..‏ كان هذا الكتاب هو الإنجيل‏..‏ ربما أراد جوتنبرج أن يبارك مطبعته بكلمات الكتاب المسيحي المقدس‏,‏ وأن يتقدم به قربانا للكنيسة‏,‏ ولكنه لم يدرك أن تلك الآلة التي اخترعها كانت خطوة هائلة في تقويض نفوذ الكنيسة ووضع بداية النهاية لاحتكار المعرفة‏.‏

جاء تأثير الطباعة بطيئا حتي توافرت الظروف الملائمة‏,‏ أولها زيادة عدد المتعلمين الذين يمكنهم قراءة ما تنتجه المطابع‏,‏ فحينما قدم جوتنبرج آلة الطباعة في القرن الخامس عشر كان العديد من ملوك أوروبا وأمراؤها لا يعرفون القراءة‏..‏ ففي مقدمة كتاب الرحالة البندقي الشهير ماركو بولو ما يت وجه به إلي الأمراء العظام والملوك والأباطرة والماركيزات‏:‏ خذوا هذا الكتاب واجعلوه يقرأ عليكم‏..‏ وحينما زاد عدد المتعلمين تعاظمت الاحتياجات لما تنتجه المطابع‏..‏ وكان ضروريا أن تتحول المطابع من مشروعات فردية إلي مؤسسات اقتصادية كبري‏..‏ وهنا وقع أكبر تحول تاريخي حين ظهر المفهوم الاقتصادي للمعرفة‏,‏ فقد ظل الكتاب حتي عصر الطباعة كنزا لا يسمح بتداوله‏,‏ وكانت الكتب تربط بالسلاسل ولا يسمح للعامة بالاقتراب منها‏.‏

جاءت الطباعة لتجعل من المعرفة عبر الكتاب سلعة تباع وتشتري‏,‏ وهذا يعني أنك سوف تحصل علي المعرفة إذا كنت راغبا في أن تدفع ثمنها‏..‏ انتشر التعليم سريعا مع الكتاب المطبوع‏,‏ أصبح بمقدور الفرد في أكثر من موضع في القارة الأوروبية أن يحصل علي نسخة من الكتاب المقدس بلغة غير اللاتينية‏,‏ ونتيجة لذلك بدأ سلطان الكنيسة في تفسير نصوص الكتب المقدسة يتعرض للتحدي والتهديد‏..‏ فقد حلت وسيلة جديدة للمعرفة الدينية لتفتح الطريق فيما بعد أمام الاحتجاج علي البناء الاجتماعي والديني القائم في أوروبا آنذاك‏..‏ وكانت تلك مقدمة لازمة لظهور مبدأ الصحافة الحرة فيما بعد‏..‏ فمن انتشار الطباعة والتعليم ظهرت فكرة الصحيفة في أوروبا والعالم الجديد‏.‏

وبعد أربعة قرون من اختراع الطباعة‏,‏ خاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر‏,‏ كانت تأثيرات الطباعة قد اكتملت بالثورة الهائلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأفراد والمجتمعات علي السواء‏..‏ عبر كل العصور كان الإنسان يجاهد في أن ينقل أفكاره عبر المكان‏,‏ وأن يبقيها عبر الزمان‏..‏ ومن أجل ذلك كتب علي جدران المعابد والأحجار والجلد‏,‏ ولكن الطباعة جاءت لتجعل تلك المهمة أيسر من أي وقت مضي‏,‏ فالمطبوعات جعلت العلاقات الاجتماعية تمتد عبر المكان وتسرع عبر الزمان‏.‏

وبالدرجة نفسها أصبح الانسجام العقلي الذي تضمنته هذه العلاقات الاجتماعية أشمل وأكثر وعيا‏,‏ فقد أصبح الفرد أكثر امتدادا عبر المكان والزمان حين أصبحت له علاقات بحياة أكبر وأكثر تنوعا‏..‏ كانت المطبوعات كتبا وصحفا هي التحدي الأكبر أمام حرية التعبير والحرية السياسية التي شغلت الإنسان في العصور الأخيرة‏.‏

الطباعة هي التي قادت الإنسان نحو ما يسمي اليوم بخطوط الإنتاج حين أدي تطورها إلي بدء تصنيع الكتب والصحف فشهدت المطابع أول خط للإنتاج وأنتجت أول سلعة موحدة المواصفات للاستخدام الجماهيري‏..‏ الطباعة هي التي قادت الاتصال الإنساني‏,‏ بما في ذلك الاتصال الإلكتروني اليوم‏,‏ نحو اقتصاد السوق‏..‏ وكانت الطباعة أول من أنتج سلعا تستخدم لمرة واحدة حين اهتمت بالأخبار فجعلت من خبر الأمس سلعة بلا قيمة‏.‏

أما في مصر‏,‏ فلم نكن بعيدين عن تأثير الطباعة كتبا وصحافة منذ أن عرف المصريون أول مطبعة مع الحملة الفرنسية‏..‏ صحيح أنها رحلت مع الحملة‏,‏ ولكنها عادت من جديد بعد سنوات قليلة لتسهم أكثر من أي مستحدث تكنولوجي آخر في نقل مصر من غيابات القرون الوسطي إلي أضواء العصر الجديد‏..‏ معها انتقلت مصر من عصر الكتاتيب إلي عصر المدارس‏..‏ وتبوأت بها مصر مكانتها في الشرق منارة للمعرفة والتنوير‏,‏ بعد أن كانت تستند في قوتها إلي جنودها وإلي اقتصادها أحيانا‏.‏

واليوم تنزوي المطبوعات في كل بيت مصري لحساب معدات الاتصال الإلكتروني‏..‏ وحتي إذا وجدت المطبوعات من كتب وصحف‏,‏ فإن الأجيال الجديدة يبدو وكأنها أعطت ظهورها للمطبوعات فتراجعت قدراتها علي الكتابة وفقدت الصبر علي الفهم المتأني الذي وفرته المطبوعات من قبل لأجيال سبقتهم‏..‏ وحتي الآن جاءنا الاتصال الإلكتروني بجيل أقل معرفة رغم الآفاق الواسعة التي انفتحت أمام الجميع بهذا النمط من أنماط الحصول علي المعرفة‏.‏


المصدر / الأهرام

بتاريخ اليوم الثلاثاء 19 مايو
2009







  رد مع اقتباس