بقلم الشيخ " محمد الغزالى " رحمه الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل الدين قاس على المخطئين ، يبيت لهم العقاب ويتربص بهم الدوائر ويسعى للخلاص
منهم ؟ أم له موقف أحنى وأرعى بغية تألفهم واستصلاحهم ؟
ان عيسى ابن مريم لم يكن يشجع الزناة حين جائوا له بإمرأة عاثرة لكى يرجمها
فقال : ( من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم لرجمها ) .
إنه كان أولاً يستبشع سيرة نفر من علماء اليهود يشتهون أن يروا المخطئ مطروحا للعقاب
مفضوحا بين الناس ، انهم ـ بهذه الشهوة ـ ليسوا أفضل من الزانية .
وكان ثانيا يريد إعطاء العاثر فرصة يستعيد فيها رُشده ويصلح نفسه ، فمهمة الدين اذا رأى
عاثراً أن يعينه على النهوض ، لا أن يتقدم للإجهاز عليه .
وعيسى فى هذا شبيه بمحمد ـ عليهم جميعا السلام ـ الذى كان يلقن المقر بالزنا كلمات
الرجوع والنجاة من الموت .
ولسنا بتاتاً نلغى وظائف الشرطة والقضاء ، أو نهون من شرائع الحدود والقصاص .. فالقانون الخلقى باق ، والقانون الجنائى باق ، وكلاهما له نطاقه الذى يعمل فيه ، وكلاهما ضرورة اجتماعية .
إننا نريد أن ننفى عن الدين تهمة القسوة ، متذكرين مع ذلك قول الشاعر :
فقسا ليزدجروا ومن يك راحما * فليقسُ أحيانا على من يرحم
والناس معادن ، وللمعدن الواحد أحوال يصفو فيها ويكدر ، وسنة صاحب الرسالة الخالدة أن الامام يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقاب ...
وجاء فى الصحيح عن أبى أمامة ـ رضى الله عنه ـ وكان من أهل الصفة ـ قال بينما أنا قاعد
مع رسول الله فى المسجد جاءه رجل فقال : يا رسول الله ، إنى أصبت حداً فأقمه على ،
فسكت عنه رسول الله ، فقال : يارسول الله إنى أصبت حداً فأقمه على ، قالها الرجل ثلاث
مرات ، وأقيمت الصلاة ، فلما انصرف تبعه الرجل !
قال أبو أمامة : فاتبعته أنظر ما يرد عليه رسول الله فقال : يا رسول الله إنى أصبت حداً
فأقمه على فقال له الرسول : ألست حين خرجت من بيتك قد توضأت فأحسنت الوضوء ؟
قال : بلى !، قال : وشهدت الصلاة ؟ قال : نعم ، قال : إن الله قد غفر لك حدك .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروى عن أبى الدرداء أنه جئ له بامرأة سرقت ، ليحقق معها ويعاقبها فقال لها أبو
الدرداء : سرقت ؟ قولى : لا .. !
وهو تلقين غريب ! ولكنه يشير الى طبيعة الدين فى درء الحدود والتنفيس عن الخاطئين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" ويروى أن المأمون أتى بمرتد عن الاسلام الى النصرانية فقال له : أخبرنا عن الشئ الذى
أوحشك عن ديننا بعد أنسك ، واستيحاشك مما كنت فيه ، فإن وجدت عندنا دواء دائك
تعالجت به . وإن أخطأك الشفاء كنت قد أعذرت ولم ترجع على نفسك بلائمة .
فإن قتلناك قتلناك بحكم الشريعة ، وترجع أنت فى نفسك الى الاستبصار والثقة ، وتعلم أنك
لم تُقصر فى اجتهادك ، ولم تفرط فى الدخول فى باب الحزم.
فقال المرتد : أوحشنى ما رأيت من كثرة الاختلاف فيكم .
قال المأمون : لنا اختلافان : أحدهما كالإختلاف فى الآذان والاقامة ، وتكبير الجنائز
والتشهد ، وصلاة الأعياد وتكبير التشريق ، ووجوه القراءات ، ووجوه الفتيا ، وهذا ليس
بإختلاف ، إنما هو تخيير وسعة وتخفيف من المحنة ، فمن أذن مثنى وأقام مثنى لم يخطئ ،
ومن أذن مثنى وأقام فرادى لم يخطئ . ولا يتعايرون ولا يتعاتبون بذلك .
والإختلاف الآخر : كنحو اختلافنا فى تأويل الآية من كتابنا وتأويل الحديث مع اجتماعنا على
أصل التنزيل ، واتفاقنا على عين الخبر ،
فإن كان الذى أوحشك هذا حتى أنكرت له هذا الكتاب ، فقد ينبغى أن يكون اللفظ لجميع
التوراة والإنجيل متفقاً على تأويله كما يكون متفقاً على تنزيله ، ولا يكون بين جميع اليهود
والنصارى اختلاف فى تأويلها من لفظها .
ولو شاء الله أن يُنزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا تحتاج الى تفسير لفعَل ، ولكنا
لم نر شيئاً من أمر الدين والدنيا وقع على الكفاية ، ولو كان الأمر كذلك لسقطت المحنة
والبلوى ، وذهبت المسابقة والمنافسة ، ولم يكن تفاضل ، وليس على هذا بنى الله أمر الدنيا
فقال المرتد : أنا أشهد أن لا اله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وأن المسيح عبد الله ، وأنك أمير المؤمنين حقا .
ــــــــــــــــــــــــ
ليكن فى ذلك عبرة لكل داعى للخير .