عرض مشاركة واحدة
قديم منذ /08-24-2009, 01:40 PM   #4

حنونة
عضوية التميز
 

 رقم العضوية : 26236
 تاريخ التسجيل : Jul 2009
 العمر : 35
 المكان : بلد المليون و نصف مليون شهيد
 المشاركات : 2,327
 النقاط : حنونة will become famous soon enough
 درجة التقييم : 50
 قوة التقييم : 1

حنونة غير متواجد حالياً

أوسمة العضو
افتراضي

ة فى القرن الثاني الميلادياعتبر المؤرخون الفتره الواقعه ما بين عام 98و عام 180 هو عصر الامبراطوريه الرومانيه الذهبى ، من حيث الإدارة الحازمة فى الدخل والتوسع الإقليمى الكبير وتوطيد النفوذ وتأمين الحدود والاهتمام بشئون الولايات والنزعه الاصلاحيه المستنيرة لدى الأباطرة . ويطلق هؤلاء المؤرخين على الباطره الخمسه الذين تعاقبوا على الحكم خلال هذه الفترة اسم"الأباطرة الصالحين"، وهم على التوالى نرفا وتراجان وهادريان وأنطونينوس بيوس(التقى) وأخيرا ماركوس أوريليوس. وعن هذه الفترة كتب المؤرخ الانجليزى الأشهر إدوارد جيبون E.Gibbon يقول : " لو أن إنسانا طلب إليه أن يعين تلك الفترة التى نعم فيها الجنس البشرىبأقصى درجات السعادة و الأزدهار لحددها دون تردد بالفترة الواقعة بين موت دوميتيان واعتلاء كومودوس العرش (أى الفترة من عام 98 الى عام 180)، إذ أن الامبراطورية الرومانية المترامية الأطراف خضعت(عندئذ) لحكم قوة مطلقة استهدت بالفضيلة و الحكمة . وكانت الجيوش مكبوحة الجماح بفضل قيادة حازمة ورحيمة فى الوقت نفسه لأربعة من الأباطرة تولوا متعاقبين هم ترفا و ترجان و هادريان و أنطونيوس ، وقد نالوا بأشخاصهم وسلطاتهم صادق الاحترام، وانضبطت بفضلهم الإدارة المدنية، وأسعدهم أن يتراءى لهم طيف الحرية وأن يكونوا هم رعاة القوانين..........." بيد أن هذه الصورة الجميلة التى يرسمها جيبون لهذه الفترة لم تكن كذلك بالنسبة إلى مصر . ذلك أن هذه الفترة شهدت هنا وعلى التوالى ثورة اليهود العارمة التى ألحقت بمصر دمارا هائلا على عهدى تراجان وهادريان، ثم شهدت ثورات المصريين الذين طفح بهم الكيل من المظالم على عهدى أنطونينوس بيوس و ماركوس أوريليوس . وشاء الحظ أن توافينا أوراق البردى بوثيقة من عهد تراجان تحمل صورة مخزية محزنة عن محاكمة أحد ولاة مصر فى ذلك العهد وهى تدمغ إدارة مصر الرومانية بالفساد. ولو أن جيبوس كان يولى الشئون الداخلية للولايات الرومانية الشرقية ذات الاهتمام الذى كان يوليه للولايات الغربية (الأوربية) التى عناها أساسا برأيهالجميل الذى ورد فى أكثر من موضع من كتابه القيم، وهو أن الحرية شرط أساسى لسعادة الانسان، ولو أنه كان على علم بما أظهرته وثائق البردى من بعده من ضروب الظلم و القهر التى عاناها المصريون و فداحة ما حل بساحتهم من أحداث، إذن لعدل من رآيه الذى أسلفناه عن فترة حكم الأباطرة الخمسة الصالحين.عهد تراجانفأما أول هؤلاء الأباطرة وهو نرفا فقد بلغ العرش وهو شيخ متقدم فى العمر،فلم يطل حكمه اكثر من عامين، ظلت الأحوال فى مصر فى خلالهما هادئة على وجه العموم . ثم تولى من بعده تراجان traianus الذى نشطت فى عهده الحياة السياسية نشاطا كبيرا وتصاعد المجهود الحربى الرومانى على مدار سنوات عهده التى بلغت نحو العشرين . أما مصر فإن ماوصل إلينا من أخبار أحداثها فى هذا العهد يمكن إجماله فى ثلاثة أمور هى : 1-المحاكمة التى جرت أمام الامبراطور فى روما لشخصية رومانية يغلب على الظن أنه جايوس فيبيوس ماكسيموس والى مصر فى الفترة مابين عام 103 وعام 107م بتهمة الفساد و الإفساد . 2-إنشاء حصن بابليون ليصبح مقر الجيش الرومانى فى مصر، وإنشاء فرقة رومانية جديدة عسكرت فيه . 3- اندلاع الثورة اليهودية الكبرى التى شهدت مصر فى خلالها أسوأ أحداث العنف والدمار.محاكمة مكسيموسفأما هذه المحاكمة فيمكن أن تتخذ شاهدا على ماكان يقع من بعض الولاة الرومان فى مصر من تجاوزات واستغلال للنفوذ الذى أتاحته لهم سلطاتهم المطلقة فىإدارة شئون الولاية . وقد انتهت المحاكمة بعزل هذا الوالى من منصبه فى إدارة شئون الولاية. وقد انتهت المحاكمة بعزل هذا الوالى من منصبه بعد أن لطخت سمعته أوحال الخزى والعار، حتى وجدنا اسمه وقد أزيل من ثلاثة نقوش تم العثور عليها، وهو ما يؤيد أنه عزل بالفعل بعد إدانته . وقد جاءت التهم التى وجهت إلى مكسيموس جزءا من عريضة دعوى تضمنتها بردية مهمة من برديات اوكسيرينخوس (البهنسا)، ومن هذه التهم الإبتزاز Repetundae ، وهو الدعوى الأساسية التى أقيمت عليه، ومزاولة الربا و التعسف فى تطبيق القانون و إستغلال السلطة فى التعيين فى منصب مدير معهد الجمنازيوم Gymnasiarchos بالاسكندرية، وهو كما نعلم أرفع المناصب "البلدية" جميعا، هذا فضلا عن اتهامه فى اسلوب فاضح تجاوز حدود الاحتشام بتهمة خلقية هى افساد شاب ثرى هام به الوالى حبا على رءوس الأشهاد. وقد حضر إلى روما لإقامة هذا الادعاء على الوالى ممثل عن وفد الاسكندريين . وتعتبر هذه البردية بالغة الأهمية من حيث زيادتها لمعرفتنا عن سلطات الوالى الرومانى فى مصر و صلاحياته ومظاهر الأبهة البادية فى ممارسة هذه السلطات فى قصر الحكم بالاسكندرية . بيد أن لهذه الوثيقة وجها أخر، وهو أنها دليل على حرص تراجان على إنصاف رعاياه من عسف الولاة وجورهم . فقد تم عزل الوالى كما سبق أن ذكرنا، وصدرت الأوامر بطمس اسمه فى النقوش، وهو إجراء كان يوقع على مرتكبى الجرائم فى حق الدولة . وفى سياق هذا الحديث عن اهتمام تراجان بأمور و أحوال سكانها، نورد ما يذكره الكاتب بلينى (الأصفر) Pl.Junior من إنه إزاء ماألم بمصر من مجاعة بسبب إنخفاض فيضان النيل، أمر الإمبراطور بأن يعاد إلى الاسكندرية أسطول محمل بالغلال التى كانت مخصصة لتموين روما تخفيفا للأزمة، فكان هذا تصرفا إنسانيا غير مسبوق لدى الاباطرة الرومان، وهو مؤشر على توجه نراه فى خلال فترة الأباطرة "الصالحين" ونعنى به مقاربة أحوال رعايا الإمبراطورية فى الولايات والاستماع إلى شكاواهم وتفهم آلامهم بعيدا عن نزاعات الصلف و الاستعلاء القديمة ، لولا أن ذلك لم يصل إلى درجة التيار القوى الذى يؤدى إلى خلاص الولايات من آلامها المزمنة .إنشاء حصن بابليون و فرقة تراجان الثانية:ويعزى الى تراجان إجراء تعديلات فى نظم الدفاع فى مصر ، ومن أبرزها إنشاء ذلك الحصن الذى عرف بحصن بابليون والذى كثر ورود ذكره فى كتبفتوح مصر الإسلامية. وقد أنشئ هذا الحصن على ضفة النيل الشرقية بديلا للتكنات العسكرية القديمة التى كانت قائمة منذ أيام أوغسطس، وليكون وسيلة لإحكام سيطرة القوات على مدخل الدلتا و على القناة التى أمر تراجان بشقها بين النيل والبحر الأحمر، وتيسير عمليات تزويد القوات بالمئونة والمياه. وظل هذا الحصن منذ ذلك الوقت مقر الجيش الرومانى فى مصر ، وكان هو مركز القوة البيزنطية الفعلية فى البلاد حين قدم العرب الى مصر فاتحين بعد أكثر من خمسة قرون ، وأما فرقة تراجان الثانية المعروفة بالباسلة Legio II Triana Fortis فمن المرجح أنها فرقة جديدة أقيمت فى مصر خدمة لمجهود تراجان الحربى الكبير الذى كان يزمع القيام به فى الشرق و خاصة ضد البارثيين ، بمعنى أنها كانت تنزل فى مصر بصفة غير دائمة ، لكنها فى الواقع بقيت مرابطة هناك ولم تسحب منها إلا للاشتراك فى حرب الدانوب (167-175) ضد قبائل الجرمان فى عهد الامبراطور ماركوس أوريليوس .

ثورة اليهود الثانية (الكبرى)

أما أهم حدث تأثرت به مصر فى عهد تراجان فهو تلك الثورة العارمة التى أشعلها يهود الامبراطورية وشملت مصر برقة و قبرص، ولكن دون أن تشمل فلسطين، فكان فى الأمر على ما يظهر قدر من تنسيق الحركة بين زعمائهم فى مختلف ولايات الامبراطورية ، وقد تحولت هذه الثورة إلى صدام مسلح وجرت معارك حقيقية بين القوات الرومانية واليهود، بحيث وصفتها الوثائق البردية اليونانية بأنها (حرب) Polemos ، وأضاف إليها مؤرخ الكنيسة يوسيبيوس بعد ذلك صغة الحرب "غير الهينة" .

وقد مربنا كيف توالت ضربات الرومان على اليهود بعد تحطيم الهيكل فى القدس على يد تيتوس فى عام 70 م. فقد فرض فسبسيان على يهود الإمبراطورية تلك الضريبة الخاصة التى كان عليهم أن يدفعةها لمعبد الإله جوبيتر الكابتولينى فى روما بعد أن كانوا يؤدونها للهيكل بالقدس، ولاريب فى أن ذلك أورثهم شعوراً بالحطة والمهانة أضيف إلى شعورهم القديم بالمرارة لدفعهم ضريبة الرأس. ثم أعقب ذلك إغلاق المعبد اليهودى فى ليونتوبوليس بالدلتا ونهب كنوزه و مصادرة جميع أملاكه. وهكذا مالت سياسة الأباطرة إلى أخذ اليهود بالشدة بصفة كونهم جماعات مثيرة للشغب ، وكان طبيعياً أن يضمر اليهود للرومان عندئذ حقداً دفيناً وأن تنمو بينهم فكرة "الخلاص" من حكمهم بعون من الإله يهوه لشعبه المختار !!

ونعلم أن النزاع تجدد بين اليهود و الاسكندريين فى عهد الامبراطور تراجان فى عام 110
(أو عام 113)، وأن الفريقين احتكما كالعادة إلى الإمبراطور الذى لام الاسكندريين على عنقهم وهدأت الأمور على نحو ما . لكن اليهود ثاروا مرة أخرى فى عام 114 ، وفى العام الذى يليه انتهزوا فرصة المصاعب التى تعرض لها تراجان فى حملته الشرقية ضد البارثيين واضطراره إلى سحب بعض القوات من مصر و أشعلوها ثورة عارمة فى برقة (قورينايئة) وقبرص و مصر . ولم تلبث هذه الثورة أن تحولت إلى حرب دامية خلضها اليهود بكل ضراوة و شراسة و ذهب ضحيتها خلق كثير من اليونان و الرومان و السكان الوطنيين فى تلك البلاد. وفيما يخص مصر اتحد اليهود الزاحفون عليها من برقة مع بنى جلدتهم المقيمين فى أقاليم البلاد المختلفة و سيطروا على بعض البقاع و ارتكبوا من السلب و القتل و التخريب مارددت الوثائق البردية مدى بشاعته .

وأمام ضراوة اليهود اضطرت السلطات الرومانية إلى تجنيد فرق من الأهالى المصريين. وليس أدل على ماخلفته هذه الصراعات فى نفوس هؤلاء الأهالى من أثر عميق من أن بردية يرجع تاريخها إلى عام 202 ميلادية تذكر أن سكان بلدة أوكسيرينخوس كانوا لا يزالون حتى ذلك العام يحتفلون بذكرى نصر أحرزوه على اليهود مقاتلين فى صفوف الرومان، أى بعد نهاية هذه الثورة بأكثر من ثمانين عاماً . وثمة قرائن على أن الحرب ظلت مستمرة حتى وفاة تراجان فى عام 117 م.


الإمبراطور هادريان (117-138)


وحين تولى هادريان العرش، كانت أصداء ثورة اليهود الكبرى لا تزال تتردد فى أرجاء العالم الرومانى، وهى ثورة ذكرنا مدى التخريب و الخسائر الاقتصادية التى ألحقتها بمدينة الاسكندرية و بسائر المدن والأقاليم فى مصر. فقد دمرت مساحات هائلة من الأراضى الزراعية، وأدى التجاء السلطات إلى تجنيد الفلاحين لمواجهة هذه الثورة إلى تدهور أحوال الرزاعة، وفى الوقت نفسه كسدت التجارة المصرية الخارجية. وإزاء سوء الأحوال الاقتصادية المترتبة على ذلك ، أصدر هادريان فى مطلع عهده (فى عام118) مرسوماً بتخفيض إيجارات الأراضى الزراعية المملوكة للدولة و المؤجرة للمزارعين تخفيضاً كبيراً . غير أن الإمبراطور سرعان ماواجه فى عام 122\123 تجدد الاضطرابات والقلاقل فى مدينة الاسكندرية . وكانت ظروف قيام العنف هذه المرة مرتبطة باحتفالات دينية أقامها المصريون فى الاسكندرية بمناسبة تكريس عجل أبيس عثر عليه بالمدينة . ولا ندرى إن كان العنصر الذى بدأالشغب هم المصريين بتحريض من اليونان بسبب ماأظهره اليهود من احتقار لتلك الشعائر الدينية الوثنية أم كان اليهود هم البادئين. وقد أثارت الفتنة الجديدة حنق الإمبراطور الذى أرسل إلى الاسكندريه رساله تهديد وتعنيف شديده أمر فيها جميع الأطراف بالتزام الهدوء. لكن يبدو أن خطر هذه الفتنه كان محدودا لأن الرومان استطاعوا إخمادها فى وقت قصير. وقد نشط هادريان لاصلاح وترميم ما دمرته الفتن السابقة واللاحقة من مبانى الاسكندريه، مدينه الاسكندر العظيمة وحاضرة الثقافة اليونانية الكبرى فى شرقى البحر المتوسط. وانتهز الفرصة لممارسة ميوله فى إقامه المنشآت الجديدة، فكان من أهمها معبد السيرابيوم الجديد ، والمكتبة الجديدة التي عرفت بأسم الامبراطور نفسه (Hadrianeion) ، وكانت في الاصل دارا جديدة لحفظ السجلات والوثائق وورد ذكرها في مرسوم لوالي مصر فلافيوس تيتيانوس مؤرخ في عام 127 ، وقد استمرت أعمال الترميم و الانشاء فترة طويلة امتدت الى ما بعد عام 130 وهو تاريخ قيام الامبراطور بزيارته المهمة الى مصر .



هادريان في مصر

وقد وصل هادريان إلى مصر في صيف ذلك العام تصحبه زوجة سابينا ورهط من الحاشية الإمبراطورية، كما كان في مغيتة فتاه الأثير لديه وهو أنطينوس Antinoos ذو الجمال البارع. ولبث الإمبراطور في الإسكندرية أكثر من شهر ريثما تنحسر مياه فيضان النيل، إذ أنه بوصفه "فرعونًا" للبلاد، كان محرمًا عليه أن يبحر في النيل أثناء الفيضان وفقًا للتقاليد المصرية القديمة. وقد أبحر الإمبراطور مع حاشيته في رحلة نيلية صوب الجنوب قاصدين طيبة مدينة المدائن ذائعة الصيت حيث شاهدوا مروجها وآثارها العظيمة، وكعادة كل الرومان الذين زاروا المدينة العريقة قبل هادريان أو بعدها بقصد السياحة، توقف الركب الإمبراطوري طويلاً أمام تمثالي ممنون الشهيرين اللذين كان يخرج منهما عند شروق الشمس صوت موسيقى جميل بفعل تبخر قطرات ندى الصباح عند سقوط الأشعة على التمثالين، وهي ظاهرة طبيعية كانت مادة لعديدة من الأساطير في ذلك الزمان. ولم يفت أفراد الحاشية الإمبراطورية أن يسجلوا توقيعاتهم على التمثالين تذكارًا للزيارة كما فعل الكثيرون من قبلهم ومن بعدهم، لكن ما استلفت النظر من هذه التذكارات أبيات من الشعر نقشتها إحدى سيدات الحاشية وهي جوليا بالبيلا Julia Balbilla ويبدو أن مشاهدتها للتمثالين أهاجت ذكريات لها عن أخر لها في روما، لولا أن شعرها هذا لم ينطو على قيمة أدبية بأي حال.


غير أن أهم ما يلفت النظر في هذه الزيارة الإمبراطورية لمصر هو ما صاحبها من أعمال تشير إلى حب هادريان الشديد للثقافة اليونانية وانجذابه القوى إلى مظاهرها، وحرصه على تقوية ما ضعف من تيارها، ففي الإسكندرية أظهر الإمبراطور رعاية فائقة لتلك المؤسسة العلمية الجليلة التي ترجع إلى أيام البطالمة ونعني بها الموسيون Mouseion أو "دار العلم"، حيث كان العلماء والأدباء من أنحاء شتى من العالم اليوناني ينقطعون للبحث والتأليف تحت رعاية هؤلاء الملوك، ومعلوم أن هذا الدار كانت وثيقة الصلة بمكتبة الإسكندرية الكبرى التي طبقت شهرتها أفاق العالم القديم. والواقع أن أسلاف هادريان من الأباطرة الرومان واصلوا سياسة البطالمة في رعاية الموسيون إلى حد ما، لكنهم لم يغدقوا عليها إغداق البطالمة خاصة في مجال تزويد المكتبة بالكتب، أما هادريان فقد زار الموسيون حيث أعلن رعايته وحمايته لها، وشهد بعض الندوات التي عقدها علماؤها وفلاسفتها وشارك في المناقشة، وضم إلى عضوية هذه المؤسسة عددًا من مشاهير الفلاسفة في ذلك الوقت مثل بوليمون من مدينة اللاذقية وديونيسيوس من مدينة ميليتوس. وأعلن استعداده لدفع رواتب ثابتة للعلماء والفلاسفة المتجولين حثًا لهم على الاستقرار في الموسيون والانقطاع للدراسة والبحث.


كذلك أشار هادريان بإنشاء معبد جديد لعبادة سيرابيس إلى جانب ترميم المعبد القديم الذي قد لحقه التدمير إبان ثورة اليهود العارمة في عهد سالفه تراجان وقد عثر بين أطلال المعبد الجديد على ذلك التمثال الرائع الجمال للعجل أبيس بحجمه الطبيعي والمحفوظ الآن بالمتحف اليوناني والروماني بالإسكندرية وكان هادريان هو الذي أهداه إلى السيرابيوم الجديد. وليس من شك في أن محصلة هذه الرعاية للثقافة اليوانية بكافة وجوه هذه الرعاية قد انعكست أخر الأمر في انبعاث أساليب فنية يونانية كانت قد ضعفت في مصر، وقد تجلى ذلك في طرز العملة التي ضربت في مصر في عهد هادريان وفي أسلوب رسم الأقنعة على المومياوات على الطراز الهلينسي في التصوير، وكان هذا الأسلوب قد بدأ في القرن الأول الميلادي في مصر وبلغ الآن غاية الرقة والإتقان على أيام هادريان.


تأسيس مدينة أنطينوبوليس:

غير أن أعظم تعبير عن اهتمام هادريان بتقوية تيار الثقافة اليونانية في مصر هو إنشاؤه في مصر الوسطى لمدينة يوانية جديدة أرادها أن تكون مركز إشعاع لهذه الحضارة في تلك المنطقة، واختار لها موقعًا على الضفة اليمنى للنيل قريبًا من هرموبوليس ماجنًا (الأشمونين). والواقع أن تأسيس المدن اليونانية في مواقع يجرى اختيارها بعناية أصبحت منذ أيام الإسكندرية الأكبر سياسة ناجحة لنشر الحضارة اليونانية في ربوع الشرق. ونحن نتصور أن المدن اليونانية الثلاث في مصر وهي نقراطيس في الطرف الشمالي الغربي من مصر، وبطوليميس في أعالي الصعيد إلى جانب الإسكندرية التي لم تكن تعتبر من مصر بل، "قريبًا منه"، لم تكن قادرة على القيام بهذا الدور على امتداد الدلتا ووادي النيل، خاصة وأن تيار الهجرة اليونانية الذي بدأ قويًا في أوائل أيام البطالمة قد أخذ يضعف بمرور الوقت ضعفًا مطردًا. ولابد من أن الإمبراطور هادريان كان على علم بضعف العنصر اليوناني في مصر فتراءى له أن تأسيس مدينة يونانية في مصر الوسطى من شأنه أن يقوى هذا العنصر أو يوازن على الأقل بين تيار الثقافة اليونانية وتيار الثقافة المصرية الوطنية التي كان اليونان في أقاليم مصر خارج المدن قد أوشكوا على الذوبان فيها. وهذا هو الإطار الذي ينبغي أن نضع فيه قرار الإمبراطور بإنشاء مدينة يونانية، خاصة وأننا نعلم سابقة واحدة على الأقل لتأسيس هادريان للمدن اليونانية قبل زيارته لمصر، ونعني مدينة هادريانوبوليس كما سبق أن ذكرنا.


غير أن هناك إطاراً أخر من الروايات دارت فيه أقوال المؤرخين عن تأسيس المدينة ومؤداه أنه أقيمت تخليدًا لذكرى أنطينوس غلام هادريان البارع الجمال الذي غرق في النيل قرب الموقع الذي قامت فيه المدينة، أو أغرق نفسه فيه عامدًا مضحيًا بحياته كما قيل، افتداء لحياة سيدة الإمبراطور الذي ذهبت نبوءة بعض العرافين إلى أن حياته معرضة لخطر داهم. ومهما يكن من اختلاف الأقوال فإن ميتة الفتى على هذا النحو غريقًا في النيل كان يرفعه إلى مرتبة القداسة في نظر اليونان والمصريين على السواء. ولقد قيل إن الإمبراطور الملتاع حزنًا على فتاه أعلن أنه رأى روحه تصعد إلى السماء لتستقر في صورة نجم مضيء. على أننا لا نميل إلى القول بأن حزن الإمبراطور على الفتى كان وحده الدافع إلى تأسيس المدينة،ونتصور أن هادريان كان قد عقد العزم على تأسيس مدينة ما في مصر، سواء غرق أنطينوس في النيل أم بقى حيًا يرزق.


ولما كان هادريان يريد لمدينته أن تكون مركزًا يونانيًا قويًا فقد جلب لها مواطنيها من يونان مصر وذلك من مصدرين رئيسيين هما مواطنو مدينة بطوليميس بأعلى الصعيد، ومن جالية يونانية كانت تقيم في إقليم الفيوم ويرد اسمها في الوثائق بتعبير يوحي بأنها هيئة مغلقة محددة العدد وهذا الاسم هو "هيئة الـ4675 هيلني (يوناني) المستوطنين بإقليم الفيوم (أرسنوي). وقد تمتع هؤلاء المواطنون الجدد بامتيازات لم يتمتع بها سائر مواطني المدن اليوانية الأخرى ومنها حق الزواج من مصريات، والإعفاء من الخدمات الإلزامية Leitourgiai.ك يسر هادريان لمدينته سبل الازدهار الاقتصادي فمد طريقًا صحراويًا منها إلى ميناء بيرنيقي" على البحر الأحمر وزود هذا الطريق بمحطات الحراسة والمياه، ولما كانت تجارة مصر الخارجية في ذلك الوقت قد بلغت أوج نشاطها مع الأقاليم الشرقية حتى الهند، وكانت ميناء فقط Coptos تلعب دورًا هامًا في تجارة البحر الأحمر شرقًا فإنه لا يستبعد أن يكون هادريان قد قصد اجتذاب جزء كبير من تجارة فقط إلى أنطينوبوليس شمالاً إضعافًا لشأن المدينة الأولى وتقوية للرابطة بين مدينته الجديدة والاقتصاد المصري.


ويتضح أن هادريان منح أنطينوبوليس دستورًا على غرار دساتير المدن اليونانية القديمة وأن هذا الدستور كان على نمط دستور مدينة نقراطيس أقدم المدن اليونانية في مصر، فكان للمدينة موظفوها المدنيون المنتخبون، ومجلسها التشريعي Boule، وهو ما كانت مدينة الإسكندرية قد حرمت منه حتى نهاية القرن الثاني كما نعلم. كذلك قُسم المواطنون إلى قبائلPhylac وأحياء Demes على نحو ما كان متبعًا في الإسكندرية وأثينا. وفي وقت لاحق انضم إلى هيئة مواطني المدينة الجديدة عدد من الجنود المسرحيين من الجيش الروماني.




ثورة الفلاحين في عهد ماركوس أورينيوس :

خلف هادريان على العرش أنطونيوس الملفب بـ"بيس" Pius (ومعناها التقي) وقد دام حكمه أكثر من عشرين عامًا تميزت بالهدوء واقترنت في مصر بالتعبير عن الأمل في اجتلاب الخبرات، وتجلي ذلك فيما خلعه المصريون في سجلاتهم من ألقاب عبروا بها عن تيمنهم به. وترددت في وثائق البردي أصداء حرص الإمبراطور على إنزال العقوبات ببعض الموظفين الذين كانوا يستغلون الأهالي. بيد أن أعمال الشغب بين الإسكندريين واليهود التي لم تنقطع حتى أواخر عهد هادريان استمرت في عهد أنطونيوس فعكرت صفو السلام. وفي واحد من هذه الصدامات المسلحة (عام 153) سقط الوالي الروماني صريعًا في الإسكندرية وقدم الإمبراطور بنفسه إلى مصر لتفقد أحوال الأمن بالمدينة، وانتهز الفرصة فأقام بها بعض المنشآت.


وفي عام 161 ارتقى العرش ماركوس أوريليوس الذي كان بطبعه فيلسوفًا يعتنق المذهب الرواقي Stoicism الذي درس مبادءه في شبابه وأخذ يطبق أفكاره على نفسه وعلى الآخرين، فكان أمرًا طبيعيًا أن تنعكس هذه المبادئ على أسلوب حكمه وسلوكه وبالرغم من زهد ماركوس أوريليوس في السلطة وعزوفه عن مظاهر المجد والسلطان مصداقًا لمبادئه فإنه لم يترك أمور الإمبراطورية تجري على أعنتها وإنما تولاها بقدر كبير من الكفاءة من منطلق مبدأ إحساس الإنسان العميق بالواجب. بيد أن المفارقة هي أن هذا الإمبراطور العاشق للإنسانية المبشر بمبدأ السلام والإخاء بين البشر كان مقدرًا له أن يخوض عدة حروب طويلة من أجل وحدة الإمبراطورية وسلامتها، وكان هذا هو المقدر له كذلك في مصر التي شهد عهده فيها أحداثًا ثورية وانقلابية خطيرة.


ففي عام 173 قام الفلاحون المصريون في شمال الدلتا بثورة عنيفة اتخذت شكل حرب العصابات وعرفت في المصادر الرومانية باسم ثورة "الرعاة" Bucolic، فكانت أول ثورة عنيفة للمصريين نسمع عنها منذ ثورات إقليم طيبة في مطلع العصر الروماني وهي الثورات التي أخضعها أولا الولاة الرومان على مصر وهو كورنيليوس جالوس. وقد تزعم ثورة الفلاحين أحمد الكهنة فيما يبدو واسمه "إيزودور" ويعني ذلك أن الكهنة المصريين كانوا لا يزالون حتى ذلك الوقت يشكلون القيادات الوطنية.


والحقيقة هي أن أحوال الفلاحين المصريين كانت تزداد سواءً على مر الأيام حتى بلغت منذ منتصف القرن الثاني الميلادي حدًا لا يحتمل تحت وطأة نظام ضرائب رأينا أنه كان بالغ الإرهاق لهم، وخدمات إلزامية Leitourgiae لم تكن موزعة توزيعًا عادلاً متكافئًا مع القدرة المالية بين الأغنياء والفقراء وأعمال سخرة أكره عليها الفلاحون وشملت أشخاصهم ودوايهم. وفضلاً ذلك فقد ترتب على ثورة اليهود المدمرة في عهد تراجان تخريب الأراضي الزراعية وإهمال نظام الري، فساءت أحوال الزراعة وهجر الفلاحون أراضيهم عندما رأوا ألا جدوى من فلاحتها وإحيائها ما دام لا يبقى لهم من ثمرة جهدهم فيها إلا النزر اليسير. ومما يدل على سوء الأحوال نفشي ظاهرة قرار المزارعين من الأرض وهجر الأهالي للمواطن (محل الإقامة Idia)، وهو ما عرف في لغة الوثائق "بالتسحّب" Anachoresis، إما للعجز عن أداء الضرائب أو قرار من خدمة إلزامية، فكان "المتسحب" يلجأ إلى المدن الكبيرة وخاصة الإسكندرية على أمل أن يجد فيها عملاً يرتزق منه، أو يتوارى على الأقل عن أعين السلطات التي كانت تجد في طلبه لإعادته إلى موطنه Idia، فإن لم يجد المتسحب إلى ذلك سبيلاً لاذ بأحراش الدلتا وربما التحق بعصابات قطاع الطرق.


هكذا بدأ الرومان يحصدون الثمار المرة لسياستهم الاقتصادية الخرفاء في ابتزاز ثروة مصر وامتصاص الطاقة الإنتاجية لأراضيها وأهليها. ويبدو أن المصريين انتهزوا فرصة سحب بعض القوات من مصر للمشاركة في الحروب التي خاضتها الإمبراطورية ضد قبائل الجرمان في منطقة الدانوب، فثاروا ثورتهم تلك التي بلغ عن عنفها أن عجزت القوات الرومانية عن مواجهتها، بل كادت مدينة الإسكندرية أن تسقط في يد الثوار. ولم يتدرك الأمر سوى وصول نجدة من سوريا تحت إمرة فيديوس كاسيوس قائد القوات هناك، وقد لجأ هذا إلى أسلوب المكيدة والخداع مع الثوار لكي يوقع بينهم، وعندما نجح في استمالة بعضهم، تحول الباقون إلى شراذم فتمكن من تعقبهم حتى قضى عليهم، ثم عاد إلى سوريا منتصرًا بعد أن ترك فيها نائبًا عنه.




حركة تمرد أفيديوس كاسيوس:


غير أن روما لم تفرغ من ثورة المصريين إلا لتواجه خطرًا أشد. ذلك أن القائد أفيديوس كاسيوس طمع في عرش الإمبراطورية، ولعل نجاحه في القضاء على الثورة المصرية حرك في نفسه هذه المطامع. وجدير بالذكر أن أباه كان قد شغل منصب وإلى مصر مرتين الأولى في عهد هادريان والأخرى في عهد أنطونينوس بيوس، وقد يكون ذلك قد غذى أمانيه، بل قيل إنه كان يتأمر ضد الإمبراطورية الفيلسوف المتسامح مع زوجته الإمبراطورة فاوستينا Faustina لاغتصاب الحكم بعد وفاة زوجها. وعندما راجت شائعة بأن الإمبراطور سقط صريعًا أثناء حروب الدانوب أسرع كاسيوس في تنفيذ خطته فحضر إلى مصر وأخذ البيعة من الجنود في عام 175، وسارع الإسكندريون إلى تأييده وتابعهم في ذلك السوريون وعناصر من الولايات الشرقية الأخرى. بيد أن حركة كاسيوس لم تلبث أن فشلت بعد شهور معدودة إذ أن أحد ضباطه قام بقتله.


ويستوقف النظر هنا تأييد الإسكندريين لكاسيوس، ليس حبًا فيه بالطبع وإنما تأييدًا لأي حركة انشقاق على السلطة المركزية في روما مما يؤدي إلى زعزعة الحكم الروماني في مصر، وهو ما سبق أن لاحظناه في أحداث سابقة، وهذا دليل على أن شعور العداء الذي أضمره الإسكندريون للرومان منذ البداية كان لا يزال حبًا في نفوسهم بالرغم من انقضاء ما يقرب من القرنين.


وفي العام التالي (176) زار الإمبراطور ماركوس أوريليوس الإسكندرية ضمن جولة تفقدية في الولايات الشرقية، وبدلاً من أن ينتقم من الإسكندريين ويبطش بهم عقابًا لهم على مناصرة المتمرد المنشق كاسيوس، عفا عنهم بل أظهر نحوهم من الرفق ما هو خليق بحاكم فيلسوف حكيم، وكذلك كان سلوكه حتى مع أسرة كاسيوس نفسه، فلم يقض بأعدامهم كما كان متوقعًا وإنما اكتفى بنفيهم وقد احتفظ الإسكندريون بذكرى طيبة لهذا الإمبراطور، حتى أن بردية متأخرة من مجموعة البرديات المعروفة بأعمال الشهداء الإسكندريين، تصفه بالفلسفة والزهد والخير وهو ما لم يصف الإسكندريون به أي إمبراطور روماني آخر.



تصاعد أحقاد الإسكندريين في عهد الإمبراطور كومودوس

كان مراكوس أوريليوس أخر حلقة في سلسلة الأباطرة "الصالحين" لأن ابنه وخليفته كومودوس (176-192) كان على النقيض من أبيه تمامًا. فقد اتبع في سياسة الحكم أساليب بالغة العنف، واستبدت به شهوة الانتقام فتعقب أفراد أسرة أفيديوس كاسيوس حتى استأصل شأفتهم، ومضى في محاكمة زعماء الإسكنرديين وأعدم الكثير منهم. وقد بينت تلك البردية التي ذكرناها منذ قليل (وتعرف باسم أعمال أبيانوس Acta Appiana) أن صراع الإسكندريين مع الأباطرة الرومان أصبح سافرًا. فالبردية تضم أجزاء من محاضر محاكمة أبيانوس أحد زعماء الإسكندريين الذين تم إعدامهم على يد كومودوس، وهي تتصنح بالكراهية والحقد على الرومان وتتهمهم بممارسة أسوأ أنواع الابتزاز وهو أخذ القمح من مصر وبيعه في الخارج بأربعة أضعاف ثمنه. وقد ازدادت أحوال مصر سوءًا في عهد كومودوس بحيث لم تعد تبعث على اطمئنان روما إلى ولاية مصر، ولعل من الأمور ذات الدلالة في هذا الصدد ما قام به كومودوس من بناء أسطول جديد لنقل القمح من شمال إفريقيا إلى روما لمواجهة الموقف إذا ما تأخر وصول القمح من مصر.

المحاولات الإصلاحية في عهدي سفيروس وكاراكالا

اعقبت موت كومودوس فترة من النزاع على السلطة من جانب أدعياء العرش استغرقت أقل من عامين، ليبرز من معمعة الصراع ظافرًا آخر الأمر قائد قوات بانونيا Pannonia العليا (بمنطقة الدانوب) وهو سبتيميوس سفيروس الذي استطاع أن يقضي على منافسيه الواحد تلو الآخر ليخلص له حكم الإمبراطورية اعتباراً من خريف عام 193.


وفي العام الثامن من حكمه (199/200م) قام الإمبراطور سبتيميروس سفيروس بزيارة مصر، حيث قام بالرحلة الترويحية التقليدية لمشاهدة الآثار العصرية على طول الوادي، لكن هذه الزيارة لم تكن لمجرد السياحة وإنما لتدارك الوضع المتفاقم في مصر بعد أن وصل جهاز الحكم إلى حالة من العجز ينذر بانهياره جملة، وكان من أبرز مظاهر هذا العجز أن الحكومة لم تعد تجد عددًا كافيًا من الأشخاص القادرين على تحمل أعباء وظائف الإدارة المحلية في عواصم الأقاليم Metropoleis لتدهور الأحوال الاقتصادية لأفراد الطبقة الوسطى التي وقع على ك أهلها هذا العبء الثقيل منذ بدايات الحكم الروماني. وقد قام الإمبراطور بعدة إصلاحات إدارية تعتبر أول تغيير جذري في نظم الحكم والإدارة التي وضعها الإمبراطور أوغسطس لمصر منذ أكثر من قرنين من الزمان.




إنشاء مجالس الشورى Boulai في عواصم الأقاليم :

وكان أهم تعديل أدخله سفيروس هو منح الإسكندرية وجميع عواصم الأقاليم حق إنشاء مجالس الشورى فأما الإسكندرية فقد حصلت أخيرًا بعد ما يزيد على القرنين على مطلبها العزيز الذي أباه عليها الرومان منذ البداية. لكن لم يكن لتحقيق هذا الأمل القديم عندئذ زهوة الفرح عند الإسكندريين لأن إصلاح سفيروس قد ساوى بين مدينتهم وبين أي عاصمة إقليم عادية أخرى. وأما عواصم الأقاليم فقد أعلى هذا الإصلاح من قدرها. ولقد يبدو من ظاهر هنا الإصلاح أن الغاية منه كانت إعطاء مزيد من الحرية للمدن وعواصم الأقاليم في تصريف شئونها بما يقترب بها من وضع البلدية الرومانية Municipia، لكن الهدف الحقيقي كان إلقاء المسئولية في ملء الوظائف الإدارية في الأقاليم على هذه المجالس، إذ أصبح أصحاب الأملاك في عاصمة كل إقليم (متروبوليس) مسئولين مسئولية جماعية، في هيئة مجلس الشورى، عن شغل الوظائف العامة والإنفاق عليها من حسابهم الخاص. ولم يكن ذلك إلى تطويرًا محكمًا لهيئة كان يرد ذكرها في وثائق البردي من قبل تحت اسم archontov Koinon ton ومعناها هيئة الحكام البلديين. لكن شاغل كل منصب من هذه المناصب البلدية كان مسئولاً عندئذ عن اختصاصات منصبه فقط، أما الآن فقد أصبحت المسئولية جماعية، وأصبح رئيس المجلس الذي حمل اسم بريتانيس Prytanis مسئولاً أمام ممثل السلطة المركزية في الإقليم وهو الاستراتيجوس، عن كافة الشئون المالية وفي مقدمتها جباية الضرائب وضمان وجود الأشخاص الأكفاء لتولي مهام السلطة المحلية في عاصمة الإقليم، ولا يعني ذلك سوى أن السلطة المركزية أرادت أن تتخفف من أعباء الحكم بإلقائها كاملة على كاهل الأهالي.


ولعل من الأمر التي ترتبت على هذا الاتجاه من جانب الحكومة أن أعضاء طبقة المواطنين الرومان Cives Romani وطبقة المواطنين الإسكندريين ممن كانوا يقيمون في "ريف" مصر Chora قريبًا من أملاكهم الزراعية، لم يعد من اليسير عليهم أن يتهربوا من الخدمات الإلزامية المفروضة على السكان هناك، وكان هذا هو دأبهم في الماضي حيث كانوا يعتمدون على الادعاء أمام السلطات بأن موطن إقامتهم (Idia) ليس هذا الريف وإنما دائمًا في مدينة الإسكندرية. وهكذا أصبحت المسئولية الجماعية في المجالس الجديدة تشمل جميع المقيمين في عاصمة الإقليم دون تمييز.
وقد أتضح من الوثائق التي أمكن تأريخها في وقت لاحق لقيام المجالس أن تعديلات كثيرة قد أجريت في نظام جباية الضرائب، كما أن الأمر اقتضى إنشاء عدد من الوظائف الجديدة كوظيفة نائب المجلس (البريتانس) المشار إليها أنفًا، ووظيفة أمين شئون المدينة ومستشار المجلس، وكذلك إحياء وظائف قديمة كانت قد اختفت منذ أوائل الحكم الروماني كوظيفة حاكم القرية (الكومارخ) التي أسندت إليها بالتدريج مهام وظيفة كاتب القرية.

دستور الإمبراطور كاراكالا :

مات سفيروس في عام 211 ليخلفه أبناه كاركالا وجيتا. وقد نشب بينهما على الفور صراع مرير على العرش انتهى بمصرع الثاني إثر مؤامرة دبرها لاغتياله أخوه كاراكالا الذي انفرد بالسلطة منذ عام 212م. وأشهر عمل يقترن باسم هذا الإمبراطور وانعكست آثاره على نظم مصر وأوضاعها الإدارية هو ذلك القانون الذي أصدره في عام 212 (أو عام 214 في رأي بعض الباحثين) والذي اشتهر باسم دستور أنطونينوس Constitutio Antoniniana. وبمقتضى هذا القانون تم منح حق المواطن (الجنسية الرومانية Civitas Romana) لجميع رعايا الإمبراطورية الأحرار فيما عد "المستسلمين" dediticii. وقد ثار جدل بين الباحثين حول دوافع كاركالا لإصدار هذا القرار العادل وهو الذي كانت أفعاله بعيدة عن كل عدالة أو رحمة، فأحسن فريق منهم الظن به فقال إن الإمبراطور استلهمه من الأفكار المثالية التي كان الإسكندري الأكبر المقدوني قد نادى بها قبل خمسة قرون عن أخوة البشر في الإنسانية، وأنه كان في الوقت نفسه متأثرًا بالسياسة التي عمل بها الأباطرة "الصالحون" مستهدفين جمع كل شعوب الإمبراطورية تحت مظلة القانون الروماني دون تفرقة في الحقوق والواجبات. ولكن فريقًا أخر يرى أن القرار كان ينطوي على رغبة خبيثة لدى كاركالا في مضاعفة دخله من الضرائب، لأن كل سكان الإمبراطورية بحكم تمتعهم بحقوق المواطنة الرومانية سيلتزمون بدفع ضرائب عن الممتلكات الثابتة والتعامل التجاري وعلى أيلولة الأملاك بالإرث ... إلخ.


كذلك ثار الجدل بين الباحثين عن المقصود بكلمة مستسلمين Dediticii الواردة في القانون، وهل كانت تشمل المصريين أم لا. لكن الرأي الراجح أن المصريين قد شملهم القرار، وأنه ترتب على تطبيقه أن كل سكان مصر أصبحوا مواطنين رومانًا، وأبسط دليل على ذلك أن المصريين حملوا منذ ذلك الوقت في الوثائق الاسم الروماني الثلاثي وهو الدليل على الهوية أو الجنسية الرومانية.

وبعد ثلاثة أعوام من صدور القانون (في عام 215)، قدم كالاكالا إلى الإسكندرية في زيارة كانت شؤمًا وبالاً على المدينة. ولعل الإمبراطور توقع أن يستقبله الإسكندريون بالحفاوة اللائقة إظهارًا لا متنانهم للقانون. غير أن هؤلاء كانوا أقل الناس سعادة بصدوره لأنه أزال كل امتياز كان لهم على سائر سكان مصر فلم يحتفلوا بالزيارة، بل إنهم بالعكس أطلقوا ألسنتهم بالسخرية من الإمبراطور خاصة فيما يتعلق بإصراره على التشابه بالإسكندر الأكبر وأخيليوس بطل الإلياذة، كما ألمحوا له ضمنًا إلى أنه هو قاتل أخيه "جيتا" شريكه في العردن واستشاط كراكالا غضبًا من هذه السخريات والتلميحات وانتقم من الإسكندريين شر انتقام بقتل عدد كبير من شباب الجمنازيوم وإباحة المدينة ثلاثة أيام لجنوده حيث عاثوا فيها فسادًا ومر جانب كبير من مبانيها العظيمة، ومن ناحية أخرى أمر بإخراج جميع المصريين من المدينة وإعادتهم إلى موطن إقامتهم الأصلية، ولم يتثن من ذلك سوى الحمالين والباعة والتجار وغيرهم ممن كان لهم عمل أساسي في المدينة.



مصر فى العصر القبطى





نبذة

دخلت المسيحية مصر فى منتصف القرن الأول الميلادى ، ومع دخول القديس مرقس الإسكندرية عام 65 م تأسست أول كنيسة قبطية فى مصر .
وقد لاقى المسيحيون فى أواخر القرن الثالث الميلادى الإضطهاد على يد الإمبراطور دقلديانوس وقد اطلق على هذه الفترة عصر الشهداء لكثرة من استشهد فيها من الأقباط . واتخذ القبط من السنة التى اعتلى فيها دقلديانوس العرش ( عام 284 م) بداية للتقويم القبطى .

ومن أبرز مظاهر هذا العصر انتشار نزعة الزهد بين المسيحيين والتى نتج عنها قيام الرهبنة وإنشاء الأديرة العديدة فى جميع أنحاء مصر .
نهضت العمارة القبطية بروح الفن الفرعونى القديم وأكملت حلقة من حلقات الفن المتصلة منذ الحضارة الفرعونية والحضارة اليونانية والرومانية بمصر، وتُعد الكنائس التى شيدت فى القرن الخامس الميلادى نموذجاً للعمارة والفن القبطى .

وكان التصوير السائد فى العصر القبطى امتداداً للطريقة التى تواترت من العصور السابقة فى مصر وهى التصوير بألوان الاكاسيد "الفرسك" على الحوائط المغطاة بطبقة من الجبس .
ومثلما عرف المصريون القدماء الموسيقى نشأ فى العصر القبطى فى مصر فن موسيقى كنسى ليساير النزعة الفنية الموسيقية للأنغام المصرية القديمة وما زالت الألحان التى تعزف فى الكنيسة القبطية حالياً تحمل أسماء فرعونية مثل "اللحن السنجارى" وكذلك " اللحن الاتربينى" .
الرهبانية



الرهبنة في مصر كانت ذات تأثير هام في تكوين شخصية الكنيسة القبطية في الإتضاع والطاعة، والشكر كله لتعاليم وكِتابات آباء برية مِصر العِظام (في بستان الرهبان، وغيره)، وقد بدأت الرهبنة في أواخر القرن الثالث وإزدهرت في القرن الرابع. ومن الجدير بالذِّكر أن الأنبا أنطونيوس وهو أول راهب مسيحي في العالم، كان قبطياً من صعيد مصر.

في زمن الإمبراطورية الرومانية

قد لعب بطارِكة وباباوات الإسكندرية دوراً قياديّاً في اللاهوت المسيحي، تحت سلطة الإمبراطورية الرومانية الشرقية بالقسطنطينية (ضد الإمبراطورية الغربية بروما). وكان يتم دعوتهم إلى كل مكان ليتحدَّثوا عن الإيمان المسيحي.
دور الكنيسة في مجمع خلقيدونية.
الإضطهاد الذي بدأ ربما من يوم الإثنين الموافق 8 مايو 68م. (بعد عيد القيامة)، عندما إسْتُشْهِد القديس مارمرقس الرسول، بعد جَرّه من قدميه عن طريق الجنود الرومان وجابوا به كل شوارع الإسكندرية وزِقاقها.







  رد مع اقتباس