ورقات من كراسة إسكندريات

[د. محمد الرمادي]

«CHM»

وَرَقَةٌ مِنْ كُرَاسَةِ «إِسْكَنْدَارِيَّات»:

.. تلكأَ كثيراً وهو يعتصرهُ الألم..
-رفيقي-.. توقفَ مرتبكاً وإن كان منفرداً فليسَ في غرفتِهِ سواه..
تسمرَ في مكانه خجلاً فلم يتمكن مِن الحِراك..
تجمدَ في مقعدِهِ ليس برداً -وإن كنا في عز شتاء القارة الأوربية مع غلاء أسعار مواد التدفئة وأثمان الكهرباء؛ ومنذ أيام قلائل هبطت ثلوج فوق عروس البحر المتوسط.. ثغر الــ «إِسْكَنْدَارِيَّة»:- بل تجمد حياءً..

-رفيقي- أشْخَصَ ببصره في فضاءٍ لا حدودَ له ولا نهاية.. لا يرىٰ سوىٰ خيالات.. يبصرها في ليلةٍ معتمةِ تتراقص أمامه وتذهب وتجئ.. يتذكر خيالات دون وضوح ملامح لها..

يُريد أن يهرب.. ولا يوجد خلفه مِن أحدٍ يطارده!؟..

يرغب في الاختفاء ولا يعلم مِن مَن!؟..

نَوىٰ أن يتسلق جدار الزمن بأظافره ليختبأ في حديقة أحلامه؛ وبستان أوهامه.. تلك الحديقة وذاك البستان الذي زرع فيهما وهمه فاثمرت الجنتان.. أو هكذا ظن أنهما أثمرا ليحسن تحت ظلال اشجارهما الاختباء.. وبنى جداراً لحفظهما ..

عزمَ علىٰ الهروب! .. لكن .. مِن مَن!؟ ..

وإلىٰ أين!؟

ومع مَن!؟ ..

أيهربُ مِن جلدِه فيخلعه.. وهل هذا ممكنٌ!؟.. وهو دليلٌ واضح علىٰ مشرقيته!؟

أيهرب مِن هويته. وهي التي تظهر إنتماءه.. إذ ..فبمجرد نطق اسمه تُعرف ديانته.. ومجرد نظرة عابرة في خانة مولده في الورقة الأولىٰ مِن جواز سفره تُعرف ـ «إِسْكَنْدَارِيَّته»- وبمجرد فتح فمه ينطق باللهجة التي تربىٰ عليها سنوات طفولته فصباه فشبابه المبكر فيعرف أين مسقط رأسه!؟.. وإن تحدث لغة الضاد : العرب الأقحاح.. إلا أنه يحلو له التكلم بعامية مسقط رأسه.. كما بمجرد نطقه لغة الأعاجم قد يدرك البعض أجنبيَّته!؟

أين يهرب!؟

أيهربُ مِن نور بصره كي لا يَرىٰ أحداً!؟..

أيخلعُ قلبَه مِن صدره.. كي لا يحس ولا يشعر!؟..

أيفعصُ سويداءه فلا يبقَ لهذا الفؤاد مِن أثر في جسده الذي ارهقه الحب والهوىٰ واعتصره العشق والجوىٰ!؟..

أيوقف نبضات قلبه فلا تجد لخلايا مخه مصدر لتشغيلها كي لا تتغذىٰ فتموت!؟

أيكسرُ عظام بدنه كي لا يقوىٰ علىٰ المسير في أزقة الغرام.. أو كي لا يتسكعَ في حانات الغانيات.. أو كي لا يتسور جدران العذارىٰ فلا يتمكن مِن الأقتراب مِن خدورهنَّ!؟..

أيهرب مِن تاريخه الذي كتبَ سطورَه بأناملِهِ علىٰ حيطان ذاكرته.. والتي لم يستطع أن يمحو سطراً واحداً منها أو حتىٰ حرفاً!؟.. حتىٰ وإن كانت نقطة تحدد اسم الحرف أو نطقه فيبين أنه النون أو الباء.. إذ أن رسمهما واحد.. لم يستطع أن يلغي نقطة!.. وفي زمن الأعجمية العربية احتجنا للتنقيط وللحركات فوق الحروف!؟..

أيهرب مِن ماضيه.. وهو الذي صنعه بيده ولوَّنه بأصابعه!؟..

أيهرب مِن حياة له سلفتْ وهو الذي رسمها علىٰ لوحة بصره وابصرتها حدقة عينيه.. فحفظت في ذاكرة أهل العشق.. فأنعم بجوارها زمناً!؟..

.. هذه المشاعر الغامضة وأمثالها.. حدثتْ.. !

.. لأن رقمَ تليفونٍ حُفرَ في ذاكرته.. وهو الذي كان دائماً أبداً يدق علىٰ مسامعه مِن هاتفه المحمول.. فيسعده.. ويفرحه وتجد قلبه يدق سروراً وكأن القلب يريد أن يرفع المحمول لأذن العاشق الولهان.. فيسرع -لا يدري رفيقي.. مَن الذي سارع أفؤاده أم روحه أم يده!؟- فيسرع -ولعلهم جميعاً- إلىٰ حمل المحمول.. ويبادر سامعته بزخات من أرق التحيات وأجمل الأمنيات وعظيم التمنيات وخالص الدعوات وعسل الكلمات ويسرق عبيق الزهرات من حدائق قصر:« „Schoenbrunn”» ليرسلها عبيرا لأنفها.. ويأخذ خلسة وردات قصر:« „Belvedere”» لتكون عبر الأثير رسالة تعبر عما بداخله نحوها!؟

.. الرقمُ يرنُ مِن أقصىٰ الدولةِ زمن دراسته بها.. وهو يجلس أمام مكتبِهِ في عاصمة جبال الألب المطلة علىٰ الدانوب الأزرق لــ يحضر شهادته العليا.. ثم يغادرها إلىٰ موطنه الأصلي وإلىٰ مسكنه الأساسي.. بلا عودة وبلا ذكريات.. بل.. وبلا وداع!؟

.. رفيقي .. ارتبك.. اضطرب ..كَلَأَ بَصَرَهُ عدة مرات فِي هاتفه المحمول.. وتمعن النظر علىٰ شاشة عَرْضِه..

إنه الرقم الذي حفظه عن ظهر قلب لسنوات طوال..

.. إن جميع الأرقام الآخرىٰ قد يتعثر قليلاً في تذكرها.. أو.. لا يحسن نطقها؛ كــ رقمِ جوازِ سفره.. أو.. رقمِ تأمينه الصحي.. إلا هذا الرقم..

إنه رقم محمول السيدة : «CHM»..

تمعن فيه كثيراً أطال النظر في شاشة عرض هاتفه.. وأخذ يتساءل : أمعقول أن يكون هذا الرقم رقمها!؟..

أيعقل أن الناسَ جميعاً لم يتذكروا هذا اليوم وهي- «CHM» - فقط الأولىٰ في العالم تتذكر ذكرىٰ يوم ميلادي..

هكذا قال لي رفيقي..

وشيئاً ما في صدره أو بطنه أو امعاءه يؤلمه فيعتصره فيتلوىٰ أمامي.. أو كــ حركة الذبيح قبيل إنتهاء أنفاسه الأخيره!؟

.. اضطرب.. ارتبك.. وهو يرمق الرقم.. حقاً إنه رقمها..

.. فــ هي ترسل تهنئة قلبية بيوم مولده.. وهو الذي تركها في عز علاقته العاطفية بها!..

.. هكذا رَوَىٰ لي رفيقي..

وهو -رفيقي- منذ أن تركها.. وهو يبحث عن الحب الحقيقي الذي يملؤ فؤاده فيغرق قلبه فتطمئن نفسه فتهدأ جوانحه..

.. دائماً ابداً.. يقول لي رفيقي أنها امرأة مِن طرازٍ خاصٍ.. ليست كــ بقية النساء.. ولا كافة نساء العالم مثلها.. ليس مثلها أحد!

إنها نسيج خاص مِن توليفةِ خيوط حرير حريم نواعم نساء الأولين.. وذهب تيجان ملكات جمال العالم في الآخرين.. حُلِيَّت بـ عقيق وأحجار كريمة!

أبعد تلك السنوات العجاف في بعده عنها ما زالت تتذكره!؟

وترسل له تهنئة بسبب يومٍ ولد فيه وهو -رفيقي- الذي تركها دون إبداء سبب!؟..

.. رفيقي لم يبحْ لي سبب أنه تركها وغادر قصر غرامها!.. وهجر عش حبها.. وكسر مرآة عشقها!؟

ولكن بعد سنوات طوال مازالت تذكره..!؟

وهو بعد ثوان -وكأنها عقود مرت عليه من الزمان- من تلقي رسالتها.. لم يتمكن من الرد عليها تأدباً أو علىٰ أحدىٰ قواعد القرآن الكريم والذكر الحكيم والفرقان المبين : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ.} ولعل قواعد الأدب تختلف تماماً وتخالف أحياناً شعائر الحب وطقوس الغرام.. ولربك في دواخل قلوب عبيده شؤون..!

فهو لم يتمكن من الرد بأحسن منها كما لم يُرِدْ أن يَرُدْ التحية!

-*-*-

https://ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
وَرَقَةٌ مِنْ كُرَاسَةِ إِسْكَنْدَارِيَّات
* (يُتْبَعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَىٰ)*
حُرِّرَ في يوم الجمعة ٢٧ جمادىٰ الاولى ١٤٤٣ من هجرة سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين الْهِجْرِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ ~ الموافق ٣١ من شهر ديسمبر عام ٢٠٢١ من الميلاد العجيب للسيد المسيح ابن مريم العذراء البتول عليهما السلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:د. مُحَمَّدٌفَخْرُالدِّينِ؛ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّمَادِيُّ مِن ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِــالدِّيَارِ المِصْرَية الْمَحْمِيَّةِ -حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى-

[Daila]

مقال مميز للغاية، شكرا

[Daila]

مشكوررررررررررررررررررر